العقوبات الشرعية على الجرائم والجنايات - الموسوعة القانونية الشاملة

الخميس، 23 أبريل 2020

العقوبات الشرعية على الجرائم والجنايات





العقوبات الشرعية على الجرائم والجنايات      

القســــــــــم العــام 
دراســة مقارنـــة 
بالقانون 

إعــداد 
د / فهد بن حمود العصيمي 


                                  بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة 
الحمد لله و الصلاة والسلام على رسول الله أما بعد: 
لاشك أن موضوع تنظيم العقوبات على الجرائم  يستحق العناية الكبرى وخاصة في وقتنا الحاضر الذي انصرفت فيه أكثر البلاد الإسلامية عن تحكيم كتاب الله وسنة  رسوله صلى الله عليه وسلم   التي تحقق الأمن والاطمئنان لكل من حكّمها ، وان هؤلاء الذين طــبقوا القـوانين الوضـعـية بدل الأحكام الشرعية يدّعون أن الشريعة فيها قسوة ووحشية تجاه هـؤلاء الـمجـرمين كالـقاتل والســارق والزاني وشارب الخمر لأنهم مرضى ويحـتاجـون إلى عـلاج دون  ما حكمت به الشـريعة عليهم . وهذا ما حـرص عـليـه أعـداء الإسلام حـتى  يوقــعـوا المسلمين في مشاكل لا نهاية لـها كـما هـو مشـاهـد الآن فـي بعض بلاد المسلمين والتي تحـكّم القوانين الوضعية .
ولكن نعوذ بالله من رين الذنوب وحجبها للقلوب وآلا فكيف يتركون كتاب الله الذي أنزل من فوق سبع سماوات ومن رب عالم بأحوالهم  وتصرفاتهم فلا يصف الدواء إلا من عرف الداء 
قال تعالى ( ما فرطنا في الكتاب من شيء ) (1) .قال تعالى ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ) (2) .وقال صلى الله عليه وسلم ( تركتكم على  البيضاء ليلها كنهارها لايزيغ عنها  بعدي إلا هالك ) (3) .ومــن أهــمــية هــذا البحـث أنـه يتضـمـن الـقـواعـد والنظريات العامة  كـالـقــواعــد الـتـي تـتـصــل بـبـيــان أنـواع الـجـــرائـم وأنواع العـقـوبات  والـقـواعــد 
التي تؤدي إلي صلاح  أحوال الناس في دينهم ودنياهم وآجرتهم وان اتبعوها توفر لهم الأمن والطمأنينة  والسلام .                    وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
 
    الباحث /د/فهد بن حمود العصيمي 
(1) الأنعام : آية 38 .    (2) المائدة : آية 3 .
(3) رواه ابن ماجه و أحمد رقم 43 وفي مسند أحمد ج4ص126. 

                                 ــ 3  ــ

تعريف الشريعة الإسلامية 

قال في القاموس :
الشريعة ما شرع الله تعالى لعباده  و الظاهر المستقيم من المذاهب كالشرعة بالكسر منها والعتبة ومورد الشاربة كالمشرعة وتضم راؤها (1) .
وفي تهذيب الصحاح :
  الشريعة مشرعة الماء وهو مورد الشاربة والشريعة ما شرع الله لعباده من الدين 
والشارع الطريق الأعظم ويقال شرعك هذا أي حسبك والناس في هذا الأمر سواء يحرك ويسكن والشرعة بالكسر الشريعة . (2) 
وفي لسان العرب :
والشـريعة والشـراع والمشـرعة المـواضع التي ينـحدر منها  الـماء  ، قـال الليث وبهـا سمي ما شرع الله للعـباد شـريعـة مـن الصـوم والصلاة والحج والنكاح وغيره . (3) 
أما عن نشأة الشريعة 
فإنها لم تكن قواعد قليلة ثم كثرت ولا مبادئ متفرقة ثم جمعت ولم تولد الشريعة طفلة ثم تطورت وسايرت الزمن وإنما ولدت متكاملة ونزلت من عند الله جامعة مانعة أنزلها الله على محمد صلى الله عليه وسلم في فترة قصيرة لاتجاوز المدة اللازمة لنزولها ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ) (4) .
ولم تأت الشريعة لجماعة دون جماعة أو قوم دون قوم بل جاءت رسالتها عامة آلي الثقلين الجن والإنس فيه شريعة كل دولة وكل أسرة وكل قبيلة فيه الشريعة التي اسـتـطاع علمـاء القانـون أن يتخيلـوهـا ولم يسـتطيعوا أن يـوجـدوهـا فهي تنظيـم
----------------------------
(1) ينظر القاموس المحيط ، الفيروزآبادي ج3 ص44 ط دار العلم للجميع .
(2) ينظر الصحاح ،  الجوهري ج3 ص1236 ط الأولى .
(3) لسان العرب ، ابن منظور - تحت مادة " شرع " .
(4) المائدة : آية 3  .



الأحوال الشخصية والمعاملات بين الدول وبين سائر أفراد الشعب .
وقد صيغت الشريعة بحيث لا يؤثر عليها مرور الزمن ولا يبلى جدتها ولا يقضى تغيير قواعدها  العامة ونظرياتها الأساسية فجاءت نصوصها من العموم والمرونة بحيث تحكم كل حالة جديدة ولم يكن في الإمكان توقعها  ومن ثم كانت نصوصها غير قابلة للتعبير ولا للتبديل كما تتغير القوانين  الوضعية لتساير الزمن وتتطور معه (1) .


ـ 5  ــ 
تعريف القانون ومنشؤه
القانون هو تلك النظريات والقواعد التي تنظمها جماعة من الجماعات وفقا لتفكيرهم وأمزجتهم .
أما عن نشأة القانون : -
( فإنه ينشأ في الجماعة فتزداد قواعده وتكثر نظرياته كلما ازدادت حاجات الجماعات في تفكيرها وعلومها .
ويضع قواعد القانون الأشخاص المسيطرون على الجماعات وهم اللذين يقومون بتهذيب هذه القواعد وتغيرها فالجماعة إذن هي التي تخلق القانون وتصنعه على الوجه الذي يسد حاجاتها وهو تابع لها وتقدمه مرتبط بتقدمها .
وقد بدأ القانون يتكون كما يقول علماء القانون مع تكون الأسرة في العصور الأولى ثم تطور بتكون القبيلة ، ثم تطور الدولة ثم بدأت المرحلة الأخيرة من التطور في أعقاب القرن الثامن عشر على هدي النظريات الفلسفية والاجتماعية فتطور القانون الوضعي من ذلك الوقت حتى أصبح قائما على نظريات ومبادئ لم يكن لها وجود في العصور السابقة ) (1) .

الفــرق بين الشـريعة والقانون 

أساس الفرق بين الشريعة والقانون هو أن الشريعة من عند الله عز شأنه وهو القائل ( لاتبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم ) (1) .
وهو عالم الغيب الأقدر على أن يضع للناس نصوصا تبقى صالحة على مر الزمان .
أما القوانين فمن وضع البشر وتوضع بقدر ما يسد حاجاتهم الوقتية وبقدر قصور البشر عن معرفة الغيب تأتي النصوص القانونية قاصرة عن حكم ما لم يتوقعوه ، ولقد جاءت الشريعة من يوم نزولها بأحدث النظريات التي وصل إليها أخيرا القانون الوضعي مع أن القانون أقدم من الشريعة بل جاءت الشريعة من يوم نزولها بأكثر مما وصل إليه القانون الوضعي وحسبنا أن نعرف أن كل ما يتمنى رجال القانون اليوم أن يتحقق من المبادئ موجودة في الشريعة من يوم نزولها . (2) 
والشريعة شاملة كاملة لجميع متطلبات الفرد والجماعة وميزتها العموم لجميع الناس حيث إنها منبثقة من الدين الإسلامي العالمي العظيم وذلك بخلاف القانون الوضعي الإقليمي القومي . واليك التفصيل .


مميزات الشريعة



المميزات الجوهريـة التي تميز الشـريعة عن القانون ونسـتطيع تلخيصها بأربعة مميزات :ـ
1 - الكمال :
تمتاز الشريعة الإسلامية عن القوانين الوضعية بالكمال أي بأنها استكملت كل ما تحتاجه الشريعة الكاملة من قواعد ومبادئ ونظريات وأنها غنية بالمبادئ والنظريات التي تكمل سد حاجات الجماعة في الحاضر القريب والمستقبل البعيد .

2 - السمو :
تمتاز الشريعة الإسلامية عن القوانين الوضعية بالسمو أي أن قواعدها ومبادئها أسمى دائماً من مستوى الجماعة وأن منها من المبادئ والنظريات ما يحفظ لها هذا المستوى السامي مهما ارتفع مستوى الجماعة .

3 - الدوام :
تمتاز الشريعة الإسلامية عن القوانين الوضعية بالدوام أي بالثبات والاستقرار فنصوصها لا تقبل التعديل والتبديل مهما مرت الأعوام وطالت الأزمان وهي مع ذلك تظل حافظة لصلاحيتها في كل زمان ومكان .
هذه هي المميزات الجوهرية للشريعة الإسلامية وهي على تعددها وثباتها ترجع إلي أصل واحد نشأت عنه جميعاً بحيث يعتبر كل منها أثر من آثاره . (1) 

4 - العالمية :
أي إنها للثقلين الجن والإنس . وهذه المميزات مبنية على هذه النظريات العظيمة التي أرست الشريعة دعائمها منذ أربعة عشر قرناً ـ وإليك هذه النظريات مختصرة من كتاب التشريع الجنائي لعبدالقادر عوده تثبت تميّز وتفوّق الشريعة الإسلامية على القوانين الوضعية تفوقاً يثبت أن الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ولكل مكان .

(1) ينظر التشريع الجنائي / عبدالقادر عودة ج 1 ص 24 .


ــ 8  ــ 
1 - نظرية المساواة بين الناس عامة:
جاءت الشريعة الإسلامية من وقت نزولها بنصوص صريحة تقرر نظرية المساواة وتفرضها فرضاً.( قال تعالى [ يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ](1)). وقال الرسول صلى الله عليه وسلم ( الناس سواسية كأسنان المشط الواحد لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى) (2) .
فهذه هي المساواة بين الناس كافة أي على العالم كله فلا فضل لفرد على فرد ولا لجماعة على جماعة ولا لجنس على جنس ولا للون على لون ولا لسيد على مسود ولا لحاكم على محكوم وهكذا إلا بالتقوى والصلاح والقرب من الله تعالى . وقد نزلت نظرية المساواة على الرسول وهو يعيش في قوم أساس حياتهم وقوامها التفاضل بالمال والجاه والشرف واللون ويتفاخرون بالآباء والأمهات والقبائل والأجناس فلم تكن الحياة الإجتماعية وحاجة الجماعة هي الدافعة لتقرير نظرية المساواة وإنما كان الدافع لتقريرها هو رفع مستوى الجماعة ودفعهم نحو الرقي والتقدم كما كان الدافع لتقريرها من وجه آخر ضرورة تكميل الشريعة بما تقتضيه الشريعة الكاملة الدائمة من مبادئ ونظريات حتى تكون مرنة شاملة متطورة مع تطور العصر واختلافه ، وإذا كانت نظرية المساواة قد عرفت بالشريعة الإسلامية من أربعة عشر قرناً فإن القوانين الوضعية لم تعرفها إلا في أواخر القرن الثامن عشر وإذن قد سبقت الشريعة الإسلامية القوانين الوضعية في تقرير المساواة باثني عشر قرناً ولم تأت القوانين الوضعية بجديد حين قررت المساواة وإنما سارت في أثر الشريعة واهتدت لهداها . بينما لم تطبق القوانين الوضعية تطبيقاً يلائم جميع الأفراد كما في الشريعة الإسلامية وسيأتي له بيان إن شاء الله .
ـ نظرية مساواة المرأة بالرجل :
لقد رفع الإسلام من شأن المرأة من مدة أربعة عشر قرناً بعدما كانت تقتل بدفنها وهي حية وتورث إذا مات زوجها . ولكن عدالة الإسلام وفضله جعل لها حقوقاً
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


(1) الحجرات : آية 13 .
(2) ينظر في معنى الحديث مسند أحمد  / باقي مسند الأنصار  / رقم 23391 

-9-
وواجبات تساوي الرجل فلها مثل ما له وعليها مثل ما عليه وهي تلتزم للرجل بما يقابل التزامه لها لقوله تعالى "ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف" (1) ولكن الشريعة مع تقريرها 
المساواة بينهما فهناك قاعدة عامة ميزت الرجل على المرأة بميزة واحدة فجعلت له على المرأة درجة من قوله تعالى "وللرجال عليهن درجة" (2) وبينها القرآن بقوله ( الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم ) (3) فبين أن الدرجة هي الرئاسة والقوام على شئونهما المشتركة ولا شك أن الرجل هو المكلف طبقاً للشريعة بالإنفاق على المرأة وتربية الأولاد والمسئول الأول عن الأسرة أحق بالرئاسة والقوامة على شئون الأسرة المشتركة بسبب تكلفة الذهاب والإياب للرزق والإنفاق عليهم فإذا وجدت الأسرة على هذه الكيفية انطبق قول الرسول ( كلكم راع وكل راع مسئول عن رعيته ) (4) ومع ذلك فليس للرجل عليها أي سلطان في حقوقها الخاصة فهي تستطيع أن تمتلك الحقوق وتتصرف فيها دون أن يكون للرجل ولو كان زوجاً أو أباً أن يشرف عليها أو                             
يتدخل في أعمالها .
 فمساواة المرأة بالرجل من ضرورات تكميل لشريعة وتمييزهاعلىغيرها مع تقدم العصر واختلاف أهله .
وهذا مما يميز الشريعة ويفوقها على القوانين الوضعية التي لم تسمح بالتسوية بينهما إلا في القرن التاسع عشر وان بعضها يمنع النساء إلي اليوم من التصرف في شئونهن الخاصة إلا بإذن أزواجهن .
2 - نظرية الحرية :
  1 - الحرية في التفكير
أعلنت الشريعة الإسلامية الحرية للعقل في أن يفكر ويتأمل في كل شيء فيعرضه على عقله فإن آمن به كان محل إيمان وإن كفر به كان محمل كفران 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) البقرة : آية 228 .
(2) البقرة : آية 228 .
(3) النساء : آية 34  .
(4) رواه البخاري / كتاب الجمعة / رقم الحديث 893  ورواه مسلم / في كتاب الإمارة / رقم الحديث 
     3408  .



ــ 10 ــ 
ــــــــــــــــــــــــــ
ولقد قامت الشريعة الإسلامية على أساس العقل في إثبات وجود الله وإقناع الناس بالإسلام وحملهم على اعتناقه ـ قال تعالى ( إن في خلق  السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون ) (1) .

  2 - الحرية في الاعتقاد
الشريعة هي أول شريعة أباحت حرية الاعتقاد وعملت على صيانة هذه الحرية وحمايتها إلي آخر الحدود فلكل إنسان طبقاً للشريعة الإسلامية (( إذا كان من أهل الذمة إلا يجبر على الدخول في الإسلام ما دام يدفع الجزية وله ممارسة عقيدته بالطريقة التي فصلها فقهاء المسلمين على مر العصور والأزمان )) (2) لقوله تعالى ( لا إكراه في الدين ) (3) وقوله تعالى ( ما على الرسول إلا البلاغ المبين ) (4) فهذه الميزة من كمال الشريعة الإسلامية حتى يحس أهل الأديان الأخرى بسماحتها وإنها لا تكلف نفساً إلا وسعها فيدخلون فيها راضين آمنين غير مكرهين .

  3 - حرية القول

أباحت الشريعة حرية القول وجعلتها حقاً لكل إنسان بل جعلت القول واجباً على الإنسان في كل ما يمس الأخلاق والمصالح .
قال تعالى( ولتكن منكم أمة يدعون إلي الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ) (5) . 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الـبــقــرة : آية 164 .
(2) ما بين القوسين من كلام الباحث .
(3) الـبــقــرة : آية 256 .
(4) الـــنــــور : آية 54   .
(5) آل عمران : آية 104 .                                                                                             


ــ 11 ــ 
ــــــــــــــــــــــــــ
ويمثله قوله صلى الله عليه وسلم ( من رأى منكراً فليغيره بيده فإن لم
يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ) (1) . 
فلكل إنسان الحرية في أن يدافع بقلمه ولسانه بحرية ما يعتقد بشرط عدم الخروج عن حدود الآداب والأخلاق أو مخالفة النصوص الشرعية.
 ومن هنا يتبين صلاحية الشريعة وتميزها عن القوانين الوضعية لأن القوانين تنقسم إلي قسمين في حرية القول .
قسم يرى حرية القول دون التقيد إلا فيما يمس النظام العام وهؤلاء لا يعطون الأخلاق أي اهتمام .
وقسم يرى تقييد حرية الرأي في كل ما يخالف رأي الحاكمين ونظرتهم للحياة وتطبيق رأي هؤلاء يؤدي إلي الكبت للآراء وإبعادها عن المشاركة في هذا المجال مما يؤدي إلي النزاع والثورات .
3 - نظرية الحرية :
جاءت الشريعة الإسلامية مقررة لمبدأ الشورى في قوله تعالى ( وأمرهم شورى بينهم )  (2) وقوله تعالى "وشاورهم في الأمر ) (3) فهذه النظرية من متطلبات الشريعة الإسلامية ومن مميزاتها ومن كمالها لما يظهر من عموم النصين في جميع الأزمنة والأمكنة يعضد ما قلناه من أنها تتميز بالدوام وأنها لا تقبل التبديل والتغيير .
وكان أول من سن سنة الشورى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمل أصحابه صلى الله عليه وسلم بهذه السنة .
عمل الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه السنة لما علم باستعداد قريش لغزوة أحد وأنهم أقبلوا إلي المدينة ونزلوا قريباً من جبل أُحد فجمع صلى الله عليه وسلم أصحابه واستشارهم أيخرج إليهم أم يمكث في المدينة ، وكان رأيه أن لا يخرجوا من المدينة وأن يتحصنوا بها فإن دخلوهـا قاتلهم المسـلمون على أفواه الأزقة والنسـاء من فوق البيوت ووافقـه 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) رواه مسلم في الإيمان ، وفي مسند أحمد ج 3 ص 10 ، 20 ، 92 .
(2) الشورى : آية 38 .

(3) آل عمرتن : آية 159 .
ــ 12 ــ 
على هذا الرأي بعضهم وأشار عليه بعضهم بالخروج وألحّوا عليه ، فكان رسول الله أول من وضع رأي الأكثرية موضع التنفيذ فخرج لملاقاة العدو .
ولقد سبقت الشريعة الإسلامية القوانين الوضعية في تقرير مبدأ الشورى بأربعة عشر قرناً حيث لم تعترف هذه القوانين بمبدأ الشورى إلا بعد الثورة الفرنسية اللهم فيما عدا القانون الإنجليزي فقد عرف مبدأ الشورى في القرن السابع عشر .
وقانون الولايات المتحدة الذي أقر المبدأ بعد منتصف القرن الثامن عشر ، أما القانون الفرنسي فقد أخذ بمبدأ الشورى في آخر القرن الثامن عشر وعلى أثر ذلك انتشر مبدأ الشورى وأخذت به معظم القوانين في القرن التاسع عشر . فالقوانين الوضعية حيث قررت مبدأ الشورى لم تأت بجديد وإنما انتهت إلي ما بدأت به الشريعة الإسلامية حيث قررت مبدأ الشورى وصدق قول الله العظيم ( ما فرطنا في الكتاب من شيء ) (1) . 

وهناك بعض النظريات التي أقرتها الشريعة الإسلامية من مدة أربعة عشر قرناً كنظرية تقييد الحاكم وإلزامه بحدود لا يتعداها ولا ينقص منها شيئاً خشية أن يظلم رعيته وألزم الشارع الرعية بالسمع والطاعة لولي أمرهم كما قال تعالى ( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) (2) حتى يعيش كلا الطرفين من حاكم ومحكوم في رضاء ومحبة وأمن واطمئنان وتسود الحرية ويأمن الناس على أموالهم وأنفسهم . ونرى القوانين تسير في تقرير هذه النظرية على هدي من الشريعة فتجعل الحد بين الحاكم والمحكوم الدستور الوضعي الذي يبين حقوق الأفراد والجماعات والحكام ، فقد سبقت الشريعة الإسلامية القوانين الوضعية بأربعة عشر قرناً بتلك النظرية مما يدل على صلاحية الشريعة في كل زمان ولكل مكان .
ـــــــــــ




وكنظرية الطلاق :فإن الشريعة الإسلامية أباحت للرجل أن يطلق امرأته وإن لم يكن هناك سبب لتطليقها ، وأباحت للمرأة أن تطلب من القضاء أن يطلقها على الزوج إذا أثبت أنه يضارها ضرراً مادياً أو أدبياً .
وإنما جعل الشارع الطلاق في يد الرجل لأنه صاحب الرياسة والقوامة فيما يتعلق بالشئون الزوجية وعليه تقع أعباء المعيشة .
وهذا في منتهى الدقة والإحكام حيث وجد الطلاق في الشريعة الإسلامية على هذه الكيفية خوفاً من وقوع الشقاق والنزاع وحرصاً من الشريعة على حفظ كرامة كل منهما .
وهذا مما يثبت تفوق الشريعة على القوانين الوضعية حيث أن بعضها تحرم الطلاق كلياً . وأخرى تجعل الطلاق في يد الزوجة مما يسبب المشاكل وكثرة الطلاق لسرعة انفعال المرأة وعدم تحملها الكوارث .
وهذا مما يثبت تفوق الشريعة على القوانين الوضعية حيث أنها غير قابلة للتبديل والتغيير وصدق قول الله العظيم ( كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ) (1) .

وكنظرية تحريم الخمر :
حرمت الشريعة الإسلامية الخمر تحريماً مطلقاً وجعلت عقوبة تناول الخمر من الحدود المقدرة التي لا يجوز لولي الأمر العفو عنها ولا عن الجريمة التي وضعت لها ولا يجـوز للقاضي أن يخفضـها أو يسـتبدل بهـا غـيرها أو يوقـف تنفيـذها ، قـال تعالى ( يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون ـ إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون ) (2) . ومما يظهر من نصوص تحريـم الشريعة للخمر إنها عامة مرنـه مما جعلها صالحة لكل زمان
ـ

ويستطيع الأنسان أن يرى أثر الدعوة إلي تحريم الخمر ظاهراً في التشريعات التي ظهرت في       القرن الحالي فالولايات المتحدة أصدرت من عدة سنوات قانوناً يحرم الخمر تحريماًتاماوالهند أصدرت من عامين قانوناً مماثلاً وهاتان الدولتان الوحيدتان اللتان حرمتا الخمر تحريماً باتاً
 أما أكثر الدول فقد استجابت للدعوة استجابة جزئية فحرمت تقديم الخمر أو تناولها في المحلات العامة في أوقات معينة من النهار كما حرمت تقديمها أو بيعها لمن لم يبلغوا سنا
 معينة.
 ويتبين من ذلك أن العالم قد بدأ يأخذ بنظرية الشريعة الإسلامية في تحريم الخمر نظراً للمصلحة العامة فسجل العالم على نفسه بذلك أنه استجاب للحق بعد أن ظل يدعى إليه أربعة عشر قرناً فلا يجيب ، وصدق قول الله العظيم حينما يخاطب نبيه العظيم بقوله ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) (1) . (*) 

وهناك بعض النظريات التي أختصرنا الكلام فيها والتي لو تقصيناها لاحتاجت إلي مؤلفات عديدة ولعل ما ذكر فيه الكفاية والتعرف على شريعتنا الغراء بأنها صالحة لكل زمان ومكان فهل آن للسادرين في غيهم الضالين في تفكيرهم أن يرجعوا إلي كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ليجدوا فيها العلاج الواقي لما يعانونه من المصائب والمشاكل حتى ينعموا بالعز والكرامة والسيادة بمشيئة الله تعالى.


الإختلافات الأساسية بين الشريعة والقانون


تختلف الشريعة الإسلامية عن القوانين الوضعية اختلافاً أساسياً من ثلاثة وجوه :ـ

الوجه الأول :
إن الشريعة من عند الله أما القانون فمن وضع البشر وكلا الشريعة والقانون يتمثل فيه بجلاء صفات صانعه ، فالقانون من وضع البشر ، ويتمثل فيه نقص البشر وعجزهم وضعفهم وقلة حيلتهم ومن ثم كان القانون عرضة للتفكير أو ما نسميه التطور كلما تطورت الجماعة إلي درجة لم تكن متوقعة أو وجدت حالات لم تكن منتظـرة ، فالقانون ناقص دائماً ولا يمكن أن يبلـغ حـد الكمال مادام صانعه لا يمكن أن يوصف بالكمال ولا يستطيع أن يحيط بما سـيكون وان اسـتطاع الإلمام بما كان ، أما الشـريعـة فصانعها هو الله وتتمثل فيه قدرة الخالـق وكمالـه وعظمته بما كان وبما هو كائن ومن ثم صاغها العليم الخبير بحيث تحيط بكل شيء في الحال والاستقبال .

الوجه الثاني :
إن القانون عبارة عن قواعد مؤقتة تضعها الجماعة لتنظيم شؤونها وسد حاجاتها فهي قواعد متأخرة عن الجماعة أو هي في مستوى الجماعة اليوم ومختلفة عنه غداً لأن القوانين لا تتغير بسرعة تطور الجماعات وهي قواعد مؤقتة تتفق مع الجماعة المؤقتة وتستوجب التفكير كلما تغير حال الجماعة .

أما الشريعة فقواعدها وضعها الله على مر الدوام لتنظيم شئون الجماعة ، فالشريعة تتفق مع القانون في أن كليهما وضع تنظيم الجماعة ، ولكن الشريعة تختلف عن القانون في أن قواعدها دائمة ولا تقبل التبديل ولا التغيير وهذه الميزة التي تمتاز بها الشريعة تقتضي منطقين :


أولاً :
أن تكون قواعد الشريعة ونصوصها من المرونة والعموم بحيث تتسـع لحاجات الجماعة مهما طالت الأزمان وتطورت الجماعة وتعددت الحاجات وتنوعت .

ثانياً :
أن تكون قواعد الشريعة ونصوصها من السمو والارتفاع بحيث لا يمكن أن تتأخر في وقت أو عصر عن مستوى الجماعة .
فخـذ مثـلاً بعـض الأمثـلة قـال تعـالى ( وشـاورهــم في الأمـر) (1) وقـال تعالـى ( وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ) (2) .
وقال صلى الله عليه وسلم  ( لاضرر ولا ضرار في الإسلام ) (3) ، فهذه نصوص من القرآن والسنة بلغت من العموم والمرونة الحد الأقصى وهي تقرر الشورى قاعدة للحكم على الوجه الذي ينتفي معه الضرر والاثم ويحقق التعاون على البر والتقوى وبهذا بلغت الشريعة من السمو ما يعجز البشر عن الوصول لمستواه .

الوجه الثالث :
أن الغرض من الشريعة هو تنظيم الجماعة وتوجيهها والأفراد الصالحين وإيجاد الدولة المثالية والعالم المثالي ومن أجل ذلك جاءت نصوصها أرفع من مستوى العالم كله وقت نزولها ولا تزال كذلك حتى اليوم وجاء فيها من المبادئ والنظريات ما لم يتهيأ هذا العالم لمعرفته أو يصل إليه حتى الآن ومن أجل هذا تولى الله جل شأنه وضع الشريعة وأنزلها نموذجاً من الكمال ليوجه الناس إلي الطاعات والفضائل ويحملهم على التسامي والتكامل حتى يصلوا أو يقتربوا من مستوى الشريعة الكامل أما القانون فالأصل فيه أنه يوضع لتنظيم الجماعة ولا يوضع لتوجيهها ومن ثم كان القانون متأخراً عن الجماعـة وتابعـاً لتطورها ولكن القانون قد تحول في القرن الحالي



تعريف الجريمة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تعريف الجريمة :

لابد من تحرير معنى الجريمة واضوائها من التعبيرات العربية مثل الإثم والخطيئة والمعصية .
وأن هذه التعبيرات تتلاقى في معانيها الشرعية مع  المعاني اللغوية التي استقر عليها العرف اللغوي فلا يكاد الناس يختلفون في أن معنى الجريمة الفعل الذي يستوجب ملاما ، ولكن يجب أن يتبين معنى ذلك وأصل الاشتقاق اللغوي وارتباطه بالمعنى الشرعي في هذه الكلمات .
أصل كلمة جريمة من جرم بمعنى كسب وقطع ، ويظهر أن هذه الكلمات خصصت من القديم للكسب المكروه غير المستحسن ، ولذلك كانت كلمة جرم ويراد منها الـحمل على فعل حملا آثما ، ومن ذلك قوله تعالى (  ويا قومي لايجرمنكم شقاقي أن يصـيبكم مثل ما أصاب قوم  نوح أوقوم هود أو قوم صالح وما قوم صالح منكم ببعيد ) (1) أي لا يحملنكم حملا آثما شقاقي ومنازعتكم إيايي على أن ينزل بكم عذاب شديد مثل ما نزل بمن سبقوكم ممن شاقوا أنبياءهم  .
ومثل قول الله تعالى ( ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى ) (2) . أي لا يحملنكم حملا آثما بغضكم لقوم على أن لا تعدلوا ، ولذلك يصح أن نطلق كلمة الجريمة على ارتكاب كل ما هو مخالف للحق والعدل والطريق المستقيم ، واشتقت من ذلك المعنى إجرام وأجرموا وقد قال تعالى ( إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا  يضحكون ) (3) ، وقال تعالى ( كلوا وتمتعوا قليلا إنكم مجرمــون ) (4)  وقـال تعالى ( إن المجـرمين في ضلال وسـعر ) (5) ومن هذا البيان يتبين إن الجريمة في معناها اللغوي تنتهي إلي أنها فعل الأمر الذي لا يستحسن  ويستهجـن ، وأن المجرم هو الذي يقع في أمر  غير مستحسن مصـراً عـليه مستمراً فيه لايحاول تركه بل لا يرضى بتركه وذلك 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) هــــود : آية 89 .
(2) المائدة  : آية 8 .
(3) المطففين : آية 29 .
(4) المرسلات  : آية 46 .
(5) القمر : آية 47 .

ــ 19 ــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 ليتحقق معنى الوصف إذ أن معنى الوصف يقتضي الاستمرار وإذا كانت  كل أوامر الشريعة في ذاتها مستحسنة بمقتضى حكم الشارع وبمقتضى اتفاقها مع العقل السليم ، فعصيان الله يعد جريمة ، وكذلك ارتكــاب ما نهــى الله عـنـه يعـد جـريمـة وذلك لأنـه غـير مسـتحـسـن بمـقـتـضـى حـكـم الشـارع بالنهـي وبمقـتضى حكم العقل ، لأن العقل السليم تتفق قضاياه مع قـضــايا الشــرع الإسلامي ولـذلك روي أن أعــرابياً ســئل لـمـاذا آمـنت بمحمد ، فقــال لأنــي مــا رأيت محمداَ يقـول فـي أمـر افـعـل ،  والعـقل يقول لا تفعل ، وما رأيـت محـمـداً  يقـول فـي أمــر لا تفـعــل  والعـقـل يقــول افـعـل ، وعــلى ذلــك نســـتطـيع أن نـقــــول أن الجـــريمــة فـعـــل ما نـهــى الله عــنـه وعـصــيان مــا أمــــر الله بـــه أو بـعـبارة أعــم عصـيان مــا أمــر الله بــه بحـكــم الشــــرع الشــريف .
وإن تعريف الجريمة على هذا النحو يكون مرادفـاً لتعـريف الفقهاء  لها بأنها ( إتيان فعل محرم معاقب على فعله أو ترك فعل محرم معاقب على تركه وذلك لأن الله تعالى قرر عقاباً لكل من يخالف أوامره أو نواهيه وهو أما أن يكون عقاباً دنيوياً ينـفذه الحـكام وإما أن يكون تكليفاَ دينياَ يكفر به ما ارتكب في جنب تااه و إما أن يكون عقاباَ اخرويا يتولى تنفبذه الحاكم الديان و هو خير الفاصلين جل جلاله و تقدست أسماؤه .
فكل جريمة لها في الشرع جزاء إما عاجلاَ في الدنيا و إما آجلاَ في الآخرة ويتولى الأخير رب العالمين إلا أن يتوب توبةَ نصوحا ويتغمده الله برحمته .
هذا تعريف عام وليس خاصاَ فهو يعم كل معصية وبذللك تكون الجريمة و الأثم والخطيئة بمعنى واحد لأتها جميعها تنتهي إلى أنها عصيان الله تعالى فيما أمر ونهى سواء أ كان ذلك العصيان عقوبته دنيوية أم كانت أخروية.
ولكن الفقهاء الذين ينظرون إلى المعاصي من ناحية سلطان القضاء عليها وما قررة الشارع من عقوبات دنيوية يخصصون اسم الجرائم با لمعاصي التي لها عقوبة ينفذها القضاء ، فيقول الماوردي : في كتابه الأحكام السلطانية عن تعريفها : (إنها محظورات شرعية زجر الله تعالى الأحكام عنها بحد أو تعزيز).   

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


ــ 20 ــ 
 والحد هو العقوبات المقررة ويدخل في هذا الديات والقصاص التي قررها الشارع في مواضعها المنصوص عليها بالكتاب  أو السنة النبوية وذلك لأن هذه العقوبات محدودة ومقدرة .
والتعزير هو العقوبات التي ترك لولي الأمر تقريرها بحسب ما يرى به دفع الفساد في الأرض ومنع الشر وسمي تعزيراً لأن به تقوية الجماعة وبه حفظها إذ أن عزر معناها قوي ومن ذلك قوله تعالى : ( لأن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضاً حسناً لأكفرن عنكم سيآتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار ) (1)  وأن تعريف الجريمة على هذا النحو ينتهي إلي ما يقارب تعريف علماء القانون الوضعي لها 
فإنها في قانون العقوبات ( هي الفعل أو الترك الذي نص القانون على عقوبة مقررة له ) فإنه بمقتضى ذلك القانون لا يعتبر الفعل جريمة إلا إذا  ثمة نص على العقاب ولا عقاب من غير نص . والتعريف الشرعي الذي ذكرناه قد يفترق في ظاهره عن تعريف القانون الوضعي في التعزير ، فإنه عقوبة غير منصوص عليها في الكتاب أو السنة بقدر محدود  ولكن عن النظرة الفاحصة نجد التعريفين متلاقيين في الجملة وذلك لأن التعزيرات كلها تنتهي إلي منع الفساد ودفع الضرر وكل ذلك له أصل في الكتاب والسنة من ذلك قوله تعالى : ( ولا تعثوا في الأرض مفسدين ) (2) ، وقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا ضرر ولا ضرار ) (3)، ولأن هذه التعزيرات ترك تقديرها لولي الأمر له أن يسن العقوبات ما يراه رادعاً للناس وبذلك نستطيع أن نقرر أن أكثر ما في قانون العقوبات من عقوبات رادعة مانعة للفساد من قبيل التعزيرات وليس معنى ذلك أن هذا القانون شرعي من كل الوجوه ، فإنه سكت عن جرائم قدر لها القرآن عقاباً شديداً ، وعاقب على جرائم أخرى عقوبات ليست هي المقدرة لها في الكتاب والسنة .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المائدة : آية 12 
(2) البقرة : آية 60 
(3) أنظر سلسلة الأحاديث الصحيحة : الألباني / رقم 250 - وغاية المرام 68 .
     ورواه بن ماجه / كتاب الأحكام / رقم 2332 / وموطأ مالك / كتاب الأقضية رقم / 1234 / وفي         مسند أحمد / رقم 2719 /
                           
ــ21ــ
وأن النصوص القرآنية والأحاديث النبوية ورد بها القرآن و السنة عبارات المعصية و االأثم والخطيئة فلنشر هنا إلي معاني هذه العبارات وعلاقتها بمعنى الجريمة وان كلمة معصية يلاحظ أنها تتلاقى في معناها مع تعريف الجريمة بالمعنى العام .
وذلك لأن كلمة معصية يراد بها كل أمر فيه مخالفة أمر الله ونهيه وكذلك معنى إثم ومعنى خطيئة فإنه يتلاقى أيضا مع معنى الجريمة بالتعريف الأعم لأن هذه فيها جميعاً عصيان لله تعالى ، ومخالفة للشرع وقد قرر الله لها عقاباً أخروياً أو عقاباً دنيوياً ، وإن العقاب الأخروي قد يغفره الله تعالى عند التوبة النصوح فان الله تعالى يقبل التوبة عن عباده ، وعلى ذلك تكون ألفاظ الجريمة والمعصية والخطيئة والإثم ألفاظ متلاقية في معناها ، وإن كان ثمة اختلاف في إشاراتها البيانية .
فالجريمة لوحظ فيها ما يكتسبه  المجرم من كسب خبيث ومن أمر مكروه ومستهجن في العقول ، والإثم لوحظ فيه أنه مبطئ عن الوصول إلي المعاني الإنسانية العـاليـة وذلـك لأن الإثم اسم للأفعال المبطئة ، والخطيئة في معناها أن الشر يستغرق النفس ويستـولي عـليها ، حـتى يصـدر عنها من غير قصد إليه ، ولذلك لا يجيء التعبير بالخطيئة إلا عندما يكون الشر قد استحكم في قلب إنسان في مثل قوله تعالى ( بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) (1) .
الأساس في اعتبار الفعل جريمة :
إن الأساس في اعتبار الفعل جريمة في نظر الإسلام هو مخالفة أوامر الدين ويلاحظ هنا أمران .
الأول :
أن أوامـر الإسلام كـلية لا جزئية فالقرآن قد نص على عقوبات عدة تبلغ ست جـرائم . البغـي ، وقطع الـطـريق ، والسرقة ، والزنا  ، وقذف المحصنات ، 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) البقرة : آية 81 .
(2) الجريمة والعقوبات في الفقه الإسلامي - محمد أبو زهرة : ص 22  - 25  ط  دار الفكر العربي -    
     ( قسم الجريمة )



ــ 22 ــ 
والقصاص  بقسميه  ، وزادت الست عقوبات شرب الخمر والردة وغيرهما ، وبقيت عـقـوبات للجــرائم كـثيرة لـم يتنـاولهـا الكـتاب والســنة بالتفـصـيل وقــد ترك ذلك لولى الأمر يقدر لها عقوبات بما يتناسب مع المجرم وبما يكون به إصلاح العامة وسـيادة الأمن بين الكافة وذلك بالتعزير الذي هو الأصل الثاني من أصول العقاب في الإسلام .
الثاني :
أنه يلاحظ أن هناك أصلاً جامعاً تنتهي إليه العقوبات الإسلامية ومعنى جامعاً يرجع إليه في كل عقوبة تقرر بحكم التعزير ، وذلك لأن التعزير تنفيذ لأمر ديني هو العمل على إصلاح الجماعة ومنع العبث والفساد فلا بد أن يكون ثمة أساس ضابط لما يعتبر جريمة وما لا يعتبر ، وذلك الأساس لابد أن يكون مشتقاً من مصادر الشريعة ومواردها وغاياتها ومراميها واتجاهاتها ومن المقرر أن الشريعة جاءت لرحمة الناس ولإسعاد الناس في معاشهم وهدايتهم إلي الخير في مآلهم كما قال تعالى ( يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين ) (1) ، وإنه بالاستقراء ثبت أنه ما من أمر جاء في الشريعة إلا وقد كانت فيه المصلحة الإنسانية لأكبر عدد ولذلك قرر الفقهاء  أن الشريعة جاءت لحماية المصالح المعتبرة التي جدير بأن تسمى مصلحة وليست هوى جامحاً ولا لذة عاجلة ولا شهوة منحرفة .
وإذا كانت المنفعة أقرب المذاهب الخلقية لتكون أساسا للقوانين الوضعية كما قــرر الفيلســوف ( نبـتـان ) وقد جعلها أساسا للقوانين كلها فكذلك المصلحة الحقيقـيـة هي مـن الأساس فـي الشـريعــة الإسلامية فـكـل مـا شـرعـه الإسلام من نظم وأحكام أسـاسـه المصـلحــة ولا مصـلحــة فـي مخالفته ، فنلاحظ أن الشريعة الإسلامية حـافـظـت عــلى الضــرورات الخـمـس ، حـفــظ النفــس بقـتل القـاتـل حـفـظ المال بقطع يــد الســارق  ، حـفظ النســب بعقــوبـة الـزنـا المقــدرة فـي الشـريعة الإسلامية ، حـفـظ الـعـرض بعـقـوبـة الـقـاذف ، وحـفـظ الـدين بقـتــل المـرتــد والبـاغــي .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) يونس : آية 57 .




ـ23 ــ 
وإن هذه الأمور الخمسة هي التي جاءت من أجلها كل الشرائع وبنيت على المحافظة عليها العقوبات في الإسلام .
وقد قال الغزالي في كتابه المستصفى لأبي حامد الجزء الأول بصفحة مائتين وسبع وثمانون ، ما نصه ( إن جلب المنفعة ودفع الضر مقاصد الخلق وصلاح الخلق في تحصيل مقاصدهم لكن نعني بالمصلحة المحافظة على مقصود الشرع ومقصود الشرع من الخلق خمسة وهو أن يحفظ عليهم دينهم وأنفسهم ، وعقلهم ونسلهم ومالهم فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة وكل ما يفوت هذه الأصول مفسدة ودفعها مصلحة ، وهذه الأصول الخمسة حفظها واقع في رتبة الضرورات فهي أقوى المراتب في المصالح ومثاله قضاء الشارع بقتل الكافر المضل وعقوبة المبتدع الداعي إلي بدعته فان هذا يفوت على الخلق دينهم .
وقضاؤه بإيجاب القصاص إذ به حفظ النفوس ، وإيجاب حد الشرب إذ به حفظ العقول التي هي ملاك التكليف ، وإيجاب حد الزنا إذ به حفظ النسب والأنساب ، وإيجاب حد القطع للسارق إذ به يحصل حفظ الأموال التي هي قوامهم وهو مضطرون إليها وتحريم تفويت هذه الأمور الخمسة والزجر عنها يستحيل إلا تشتمل عليه ملة من الملل وشريعة من الشرائع  التي أريد لها إصلاح الخلق ولذا لم تختلف الشرائع في تحريم الكفر والقتل والزنا والسرقة وشرب المسكر ) انتهى كلام الغزالي  (1) .



ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المستصفى : أبو حامد الغزالي ج 1 ص 287 .




ــ 24 ــ 
الجريمة والجناية :  
( وكثيرا ما يعبر الفقهاء عن الجريمة بلفظ الجناية ، والجناية لغة اسم لما يجتنيه المرء من شر وما اكتسبه ، تسمية بالمصدر من جنى عليه شراً وهو عام ، إلا أنه خص بما حرم دون غيره .
أما في الاصطلاح الفقهي :  فالجناية اسم لفعل محرم شرعاً سواء وقع الفعل على نفس أو مال أو غير ذلك لكن اكثر الفقهاء تعارفوا على إطلاق لفظ الجناية على الأفعال الواقعة على  نفس  الإنسان أو أطرافه وهي القتل والجرح والضرب والإجهاض .
بينما يطلق بعضهم لفظ الجناية على جرائم الحدود والقصاص .
وإذا غضضنا النظر عما تعارف عليه الفقهاء من إطلاق لفظ الجناية على بعض الجرائم دون البعض الآخر أمكننا أن نقول إن لفظ الجناية في الاصطلاح الفقهي مرادف للفظ الجريمة .
وتختلف معنى الجناية الاصطلاحي في القانون المصري عنه في الشريعة ففي القانون المصري يعتبر الفعل جناية إذا كان معاقبا عليه بالإعدام أو الأشغال الشاقة  المؤبدة أو الأشغال الشاقة المؤقتة أو السجن فإذا كانت عقوبة الفعل حبساً يزيد على أسبوع أو غرامة تزيد على مائة قرشاً فالفعل  جنحة ، فان لم يزد الحبس على أسبوع أو الغرامة عن مائة قرش فالفعل مخالفة طبقاً للمادتين  11 ، 12 من قانون العقوبات المصري .
أمــا فـي الشريعة فكل جريمة هي جناية سواء عوقب عليها بالحبس والغرامة أم بأشد منها وعلى ذلك فالمخالفة القانونية تعتبر جناية في الشريعة ، والجنحة تعتبر جناية ، والجناية في القانون تعتبر جناية في الشريعة أيضا .
أتساس الخلاف بين الشريعة والقانون هو إن الجناية في الشريعة تعني الجريمة أيا كانت درجة الفعل من الجسامة ، أما الجناية في القانون فتعني الجريمة الجسمية دون غيرها ) (1) .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) عن كتاب التشريع الجنائي الإسلامي : عبدالقادر عوده ج 1 ص 67 - 68 




ــ 25 ــ 
الجرائم التأديبية أو الأخطاء الإدارية : -
( لم يفرق الفقهاء بين الجريمة الجنائية والجريمة التأديبية أو الأخطاء الإدارية كما يفرق بينها شراح القوانين الوضعية ، والعلة في ذلك ترجع إلي طبيعة العقوبات في الشريعة من ناحية والى تحقيق العدالة من ناحية أخرى فالجرائم في الشريعة إما أن تكون جرائم حدود أو جرائم قصاص أو جرائم تعازير ، والخطأ الإداري إذا لم يكن جريمة من جرائم الحدود أو القصاص فهو جريمة من جرائم التعازير فإذا كون الخطأ الإداري جريمة يعاقب عليها بحد أو قصاص عوقب عليه بهذه العقوبة ومحاكمة الجاني جنائياً ومعاقبته بالعقوبات المقررة لجرائم الحدود والقصاص تمنع من محاكمته تأديباً وتوقيع عقوبات تأديبية عليه لأن هذه العقوبات التأديبية لن تكون إلا عقوبات تعزيزية وهي عقوبات جنائية فكأن الجاني يعاقب  مرتين بعقوبات جنائية على فعل واحد فضلاً عن إن عقوبات الحدود والقصاص هي اشد العقوبات في الشريعة وفيها  الكفاية لتأديب الجاني وزجره ، وإذا كان الجاني موظفا فانه يمكن عزله أو وقفه عن الوظيفة إذا ثبتت عليه الجريمة ، ويصح اعتبار العزل والوقف عقوبة تعزيزية سببها ارتكاب الجريمة ، كما يتضح أن يقال إن العزل والوقف لم يقصد بها العقاب وان سببها زوال صــلاحـيـة الجاني لشغل الوظيفة أو مباشرة أعمالها لأن الوظائف في الأصل لا يتـولاهــا المجـرمــون فإذا تولاهــا مـن ليـس مجـرمــاً ثم أجرم أصبح بإجرامه غير صـالــح  لـتولـي الـوظيـفة حيث زالت صلاحيته بارتكابه الجريمة وإذا لم تكن الجــريمة التــي ارتكـبهــا الموظــف حــدا أو قصـاصا فهـي مـن التعـازير ، لأن كـل مـا عـدا الحـــدود والقصـاص يـدخــل فـي التعــازير ســواء جـاءت بـه نصـوص الشــريعـة أم حـرمتـه الهـيئة الإدارية التشريعية طبقا للسلطات الذي منحته لها نصـوص الشــريعــة ، وإذا كانت الجريمة من التعازير فلا يجوز فيها المحاكمة التـأديـبـيـة ، لأن العـقــوبات التـأديبية كالـتوبيـخ والإنذار والـعــزل  وما أشــــبه ذلك كــل هــذه عـقـوبات تعـزيـزيــة فلو حـوكم الموظــف مثـــلاً تأديبياً ثم عوقب جنائياً لـعـوقـب كل مرة بعقوبة تعزيزية ولكانت النتيجــة أنه حـوكــم مرتين على فعل واحد وهو جريمة تعزيزية وعوقب مرتين . على نفس الفعل بعقوبة تعزيزية أي عقوبة جنائية وهذا ما تأباه نصوص الشريعة .لأن القاعدة العامة فيها أن لا يعاقب الإنسان على فعل واحد مرتين فالمانع إذن من اعتبار الجريمة تأديبية أن الفعل



 ــ 26 ــ 
يعـتـبر جـريـمـة جـنائيـة وإن العقوبة التي يمكن أن توقع في المحاكمة التأديبية هي نفس العقوبة التي يمكن أن توقع في المحاكمة الجنائية أي أن المانع هو اتحاد الفعل واتحاد العقوبة .
والأسباب التي منعت من وجود الجريمة التأديبية في الشريعة الإسلامية تتوفر بصورة عكسية في دائرة القوانين الوضعية ، إذ الأصل في هذه القوانين أن العقوبات الجنائية تخالف العقوبات التأديبية وأن معظم الجرائم التأديبية لا تدخل تحت حكم القوانين الجنائية ومن ثم فقد اقتضى تغاير العقوبتين والفعلين أن يحاكم الجاني على الفعل مرتين إذا كان فعله يعتبر جريمة تأديبية ولا يمنع توقيع العقوبتين من توقيع الأخرى كما لا تحول براءته في إحدى المحاكمتين من السير في المحاكمة الثانية ويعللون ذلك بأن الدعوى التأديبية يقصد منها حماية المهنة أو الوظيفة وأن الدعوى الجنائية يقصد منها حماية المجتمع .
ولا شك أن نظرية الشريعة أكثر تمشياً مع المنطق وانطباقا على القوانين التشريعية الحديثة التي تمنع من محاكمة الشخص مرتين على فعل واحد كما أنها تؤدي إلي اختصار الإجراءات وتقليل المحاكمات ولا تحول في الوقت نفسه من توقيع العقوبة أو العقوبات التي تتلاقى مع شخصية المتهم والجريمة المنسوبة إليه (1) .
 
الجريمة المدنية :
الأصل في الشريعة أن الأموال والنفوس معصومة ، وكل فعل ضار بالإنسان أو بماله مضمون على فاعله إذا لم يكن له حق فيه والضمان إما عقوبة جنائية إذا كان الفعـل ضار معاقباً عليه فهو جريمة ،  أما إذا لم يكن معاقباً عليه فلا يعتبر جريمة ولا يسمى بهذا الاسم وإنما هو فعل ضار ، وإذن فلا مناسبة تجمع بين الجريمة والفعل الضار إلا أن كليهما مضمون على فاعله ، وقد يكون الفعل جريمة يستحق الجاني عليها العقاب ثم يكون الفعل في الوقت نفسه فعلاً ضاراً فيضمنه الجاني للمجني عليه كاستهلاك صيد مملوك في الحرم وشرب خمر الذمي ، فإن الفعل في هاتين الحالتين يعاقب على الصيد والشرب وعليه قيمة الصيد والخمر لصاحبيها .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) يراجع التشريع الجنائي /  ج 1 ص 74 وما بعدها مختصراً .



ــ 27 ــ 
وتتفق الشريعة مع القوانين الوضعية في هذه الناحية فهي تجعل الإنسان مسئولاً مداناً عن كل فعل ضار بغيره ، سواء كان القانون يعتبره جريمة أم لا يعتبره كذلك فإن كان الفعل جريمة وكان ضاراً في الوقت نفسه بالغير كان الفاعل مستحقاً للعقوبة وكان ضامناً للضرر كما هو حكم الشريعة (1) .

وبعد أن انتهينا من تعريف الجريمة بكل أنواعها ننتقل إلي بيان أركانها راجين من العلي القدير أن يحالفنا التوفيق إنه سميع مجيب .



ـ 28 ــ
أركان الجريمة : ـ
لابد من توافر ثلاثة أركان للجريمة حتى يستحق فاعلها العقوبة التي حددها الشارع وهي ما يأتي :
أولاً ـ
أن يكون هناك نص يحظر الجريمة ويعاقب عليها ويطلق عليه الركن الشرعي.
ثانياً ـ
إتيان العمل المكون للجريمة سواء كان فعلاً أو امتثالاً ويطلق عليه الركن المادي للجريمة .
ثالثاً ـ
أن يكون الجاني مكلفاً أي مسئولاً عن الجريمة ويطلق عليه الركن الأدبي .
وسنبدأ بالركن الشرعي للجريمة مفصلين هذه الفقرات الملازمة للركن .
1 - الأحكام الجنائية الشرعية .
2 - سريان النصوص الجنائية على الــزمــان .
3 - سريان النصوص الجنائية على الـمـكـــان .
4 - سريان النصوص الجنائية على الأشخاص .



 - الأحكام الجنائية الشرعية : ـ
الكـلام عن الأحكـام الجنائيـة يتناول عدة عناصر وسنبحثها ملتجئين إلي الإيجاز :
ــ العنصر الأول ــ
الأحكام الجنائية الشرعية وأثرها في الجريمة والعقوبة ، فنبدأ بأنواع النصوص الشرعية :
( تنقسم إلي قسمين : تكليفية ، ووضعية ) 
فالحكم التكليفي : هو ما اقتضى طلب عمل من المكلف أو اقتضى نهيه عن إتيانه .
اختلاف الحكم التكليفي عن الحكم الوضعي :
وذلك أن الحكم الوضعي الذي يتضمنه النص إنما اقتضى جعل شيء سبباً أو شرطاً لشيء آخر أو مانعاً منه .
1 -  من الأحـكـام التكـليـفيـة قـولـه تعالى ( ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشـة وسـاء  سبيلاً  ) (1) .
2 -   ومن الأحكام الوضعية قوله تعالى ( الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما  مائة جـلــدة )  (2) وقــولــه تعـالى ( والســارق والســارقة فاقطعوا أيديهما  جزاء بما كسبا نكالاً من الله والله عزيز حكيم ) (3) ففي الآية الأولى اقتضى  الحكم جعل الزنا سبباً لجلد الزاني مائة جلدة ، وفي الآية الثانية اقتضى الحكم  جعل السرقة سبباً في قطع اليد .
     وقد يتضمن النص القرآني الحكمين معاً ـ التكليف الوضعي كما في الآية الأخيرة إذ ينهى النص عن السرقة ويطلب الكف عن ارتكابها ويجعل هذه السرقة سبباً في قطع يد السارق والسارقة على ما مر بيانه .
جوهر الحكم التكليفي والحكم الوضعي :
الحكم التكليفي يتصـل بالنص على الجريمـة وأما الحكم الوضعي فيتصل بالنص 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الإسراء : آية 32 .
(2) الـنور : آية 2 .
(3) المـائـدة : آية 38 .



ــ 30 ــ 
على العقاب وذلك الذي يفصح عن العقوبة وشروطها وموانعها (1) .
  ومنه يتبين أنه لا جريمة ولا عقوبة بلا نص في القانون الشرعي ، وكذلك في القانون الوضعي ، لابد من نص .
( فخذ مثلاً ، هذه القواعد الشرعية التي تقطع بأن لا جريمة ولا عقاب بلا نص في الشريعة الإسلامية . لا تستند فيما جاءت به إلي العقل والمنطق ولا تستند إلي نصوص الشريعة العامة التي تأمر بالعدل والإحسان وتحرم الظلم والحيف ، وإنما تستند إلي نصوص خاصة صريحة في هذا المعنى منها قوله تعالى ( وما كنا معذبين حتى نبعـث رسـولاً ) (2) وقولـه تعالى "قل للذين كفروا أن ينتهوا يغفر لهم ما قد سـلف" (3) وقوله تعالى ( لأنذركم به ومن بلغ ) (4) . فمثل هذه النصوص قاطعة في أن لا جريمة إلا بعد بيان ولا عقوبة إلا بعد إنذار ، وأن الله لا يأخذ الناس بعقاب إلا بعد أن يبين لهم وينذرهم على لسان رسله وأنه ما كان ليكلف نفساً إلا وسعها كما قال تعالى ( لا يكلف الله نفساً إلا وسعها ) (5) فقد وجدت هذه النصوص القطعية الشرعية وليدة للشريعة الإسلامية من مدة ثلاثة عشر قرناً ، جاءت بها نصوص القرآن وبهذا تمتاز الشريعة على القوانين الوضعية التي لم تعرف هذه القاعدة إلا في أعقاب القرن الثامن عشر الميلادي حيث أدخلت في التشريع الفرنسي كنتيجة من نتائج الثورة الـفـرنـسـيـة وقـررت لأول مـرة فـي إعـلان حـقـوق الإنـسـان الصادرة في سنة 1789 م ثم انتقلـت القاعـدة من التشـريع الفرنسـي إلي غيره من التشريعات الوضعية .
فإليك بعض الأمثلة التي تعضد ما قلناه من أنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص في حكم الشريعة .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ينظر لكتاب ــ شرعية الجرائم والعقوبات ــ لخالد عبدالحميد فراج ــ الطبعة الأولى ــ ص 469 
     ــ 470 .
(2) الإسراء : آية 15 .
(3) الأنـفـال : آية 38 .
(4) الأنـعــام : آية 19 .
(5) الـبـقــرة : آية286.


                                      ــ31ــ
فخذ مثلاً جريمة الزنا ، قال تعالى ( الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة  ) (1) .
وخـذ مثـلاً جـريمـة السـرقـة ، قـال تـعـالى ( والسـارق والسـارقة فاقطعوا أيديهما ) (2) .
وخذ مثلاً في جرائم القصاص قتل العمد العدوان ، قال تعالى ( ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ) (3) ،  وقـتل شــبه العـمـد قال صلى الله عليه وسلم  ( إلا إن في قتل العمد الخطأ قتيل السوط والعصا والحجر مائة من الإبل ) .
وخذ مثلاً في إتلاف الأطراف قوله تعالى  ( وان عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ) (4) (*) .
وخذ مثلاً لجرائم التعزير ، (يقول ابن تيميه ــ رحمه الله ــ : المعاصي التي ليس فيها حد مقدر ولا كفارة كالذي يقبل الصبيان ويقبل المرأة الأجنبية أو يباشر بلا جماع أو يأكل ما لا يحل كالدم والخنزير والميتة أو يقذف بغير الزنا أو يسرق من غير حرز أو شيئاً يسيراً أو يخون أمانته كولاة أموال بيت المال أو الأوقاف ، ومال اليتيم ونحو ذلك ، فمثل هؤلاء يعاقبون تعزيزاً وتنكيلاً وتأديباً بقدر ما يراه الوالي على حسب كثرة الذنب وقلته فإذا كان كثيراً زاد في العقوبة بخلاف القليل ، ويحصل التعزير بالهجر ونحوه كما فعل صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الثلاثة الذين تخلفوا عنه في غزوة تبوك ، وأعلى التعزير القتل إن لم يندفع هذا المجرم إلا به وينظر في هذا الوالي حسب الزمان والمكان (5) .
فالكلام على هذه الأقسام الثلاثة ــ الحدود ــ القصاص ــ التعازير ــ سيأتي مفصلاً إن شاء الله في الكلام عن العقوبة وأقسامها ، وإنما ذكرنا بعض هذه الأمثلة لتطبيق قاعدة ( لا جريمة ولا عقوبة بلا نص في الشريعة الإسلامية ) .


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) النـــور : آية 2 .
(2) المائدة : آية 38 .
(3) الإسراء : آية 33 .
(4) سورة النحل : آية 126 
(*) ينظر كتاب التشريع الجنائي : عبدالقادر عوده ص 117 وما بعدها بتصرف .
(5) أنظر السياسة الشرعية : لابن تيميه ص 96 - 97 بتصرف واختصار .




ــ 32 ــ 
تفوق الشريعة بتلك القاعدة على القوانين الوضعية : ـ
( نقول ما رأي القانونيين الذين يدعون أنهم حصروا الجرائم قبل تدخل القانون بالنصوص بعد أن تأذت البشرية من مثل بيع أكباد ولحوم الموتى لإطعام الناس ، ومثل بيع لحوم الكلاب والقطط ومن ارتكب الفاحشة مع الموتى ، ومن احتكر أقوات الناس لبيعها إذا ارتفعت الأسعار .
وما رأيهم فيمن يأتون الفاحشة ممن تجاوزت الثامنة عشرة برضاها ، والزانية التي زنى زوجها في منزل الزوجية قبلها ، والشروع في الانتحار وهو الشروع في قتل النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق ، والشروع في الإجهاض ، والشروع في جرائم الجرح والضرب والإتلاف وخيانة الأمانة ، وما رأيهم في مساومة المرأة على عرضها ) .
كل هذه أمور لا يفلت مقترفوها من العقاب في حكم الشريعة الإسلامية ، ومن ثم لابد أن الشريعة الإسلامية تعمل على إيجاد مجتمع نظيف وضعت فيه الأحكام مؤسـسـة على رعـايـة مصالـح الناس أقامتها بينهم على دعائم من العدالـة والمساواة .
وبذلك وسعت أحكام الشريعة الإسلامية كل حاجات الناس في كل طور من أطوار الحياة ، وجاءت في الوقت نفسه رحيمة بالعباد(1) .
ومن هذا العرض يتبين لنا أن الشريعة الإسلامية قد سبقت القوانين الوضعية بقاعدة ( لا جريمة ولا عقوبة بلا نص ) بقرون عديدة مما يدل على إن الشريعة صالحة لكل زمان ومكان ، فأين الذين ينعقون بما لا يعلمون ويظنون أنهم مصيبون ويتجرءون على أحكام الله ويتهمونها بالوحشية وعدم مجاراة العصر ، ولكن صدق الله العظيم ( أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً  ) . (2) .



ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ينظر للكتاب ــ أنظر شرعية الجرائم والعقوبات : تأليف الدكتور خالد عبدالحميد فراج ص 507 .    
     مختصراً بتصرف .
(2) سورة فاطر : آية 8 




ــ 33 ــ 
ــ العنصر الثاني ــ
ــ مصادر التشريع الجنائي ــ
اتفق معظم جمهور العلماء على إثبات حجية ما يأتي من مصادر الشريعة الغراء .
 1 - الكتاب        2 - السنة     3 - الإجماع   4 - القياس
مضطرين إلى الكلام عن كل منها بإيجاز بما يقتضيه المقام وأما المختلف فيه  من مصادر الشريعة مثل الاستحسان ، الاستصحاب ، المصلحة المرسلة ، العرف ، شرع ما قبلنا ومذهب الصحابي ، فلا داعي إلى الكلام عن هذه المصادر المختلف فيها لأن أكثر ما يهمنا هو الكتاب والسنة المصدرين للشريعة بكل أحكامها ، وأما بقية المصادر ففرع عنهما أو تستمد أحكامها منهما .

1 - [ الــكــتـــاب ]
تــعـــريـــفــــــه :
( هو القرآن المنزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، باللفظ العربي المنقول بالتواتر المبدوء بسور الفاتحة والمختوم بسورة الناس ) (1) .
دلالـة الـقـــرآن :
دلالة القرآن وأساليبه على معانيه قد تكون قطعية كدلالة كل عدد على مدلوله الخاص كما في قوله تعالى ( والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلده ) (2) .
وقــد تكـون ظـنيـة كـدلالـة القـرء على الحيض أو عـلى الطهر في قوله تعالى ( والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ) (3) (*) .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أنظر كتاب أصول الفقه : لعباس حماده الطبعة الثانية ص 38 .
(2) النور : آية 4 .
(3) البقرة : آية 228 .
(*) ينظر ـ شرعية الجرائم والعقوبات : خالد عبدالحميد فراج ـ ص 456 .




ــ 34 ــ 
حـجـيـة القـرآن :
لا خلاف بين المسـلمين في أن القرآن من عند الله وانه سـبحانه وتعالى تجـب  
  إنما لـه الطاعـة فالقرآن حجة على كل مسـلم ومسـلمة وأحكامه واجبة الاتباع أيا كان نوعها (1) .
الغرض من نزول القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم : ـ
( نزل كتاب الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم لهداية الناس وإخراجهم من الظلمات إلي النور وجعلهم يعبدون إلهاً واحداً لا إله إلا هو خالق هذا الكون ومدبره لأجل إسعادهم في الدنيا بأن يتلذذوا بما فيها من طيبات ويسعدون فيها مدة أعمارهم ويعمرونها ، وإسعادهم بالآخرة بعد الممات في جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين ) .
ومن يتقصى أحكام القرآن الكريم يجد الشريعة ترتب على مخالفيها جزاءين ، جزاء دنيوياً وجزاء أخروياً فخذ مثلاً لهذا ، قوله تعالى ( ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ) (2)  فجعل الله للقاتل جزاءين ، جزاء دنيوياً بالقصاص ، أما جزاء الآخرة فهو العذاب الأليم وذلك كما في قوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم ) (3) .
وهكذا في كل الجرائم التي نهى  الشارع الحكيم عنها وحذر من اقترافها ، فهذا مما يحمل الناس على طاعة الله في السر والعلن ويجعلهم لا يفلتون من سلطة القانون الشرعي سواء علناً أم سراً ، مما يحثهم على إتقان أعمالهم وما تحت أيديهم ويجعلهم يؤدونه على أحسن ما يرام وبكل دقة وعناية لأنهم يعلمون حال غياب مسئولهم الكبير أن عين الله تراعيهم في كل دقيقة وجليلة .
ومما يجعلهم يكفون عن ارتكاب الجرائم خوفاً من الله سبحانه وتعالى لأنه سيجازيهم على أعمالهم إن خيراً فخير وإن شراً فشر وبسبب هذا تقل الجرائم كما هو مشاهد فيمن يحكم القرآن .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ينظر التشريع الجنائي : عبدالقادر عوده ج 1 ص 166 .
(2) الإسراء : آية 32 .
(3) البقرة آية 178 .

ــ 35 ــ 
فنرى من تلك الأسرار أن الشريعة تفوقت على القوانين الوضعية التي لا يطيعها أفرادها إلا بقدر ما يخشون من الوقوع تحت طائلتها ومن استطاع منهم أن يرتكــب جـريـمــة ( مـا ) أو نحـو ذلـك وهــو آمـن مـن سـطـوة القـانــون فليس ثمة مــا يمـنعـه مـن ارتكابها مـن خـلـق أو ديـن ولـذلك تــزداد الجــرائم والمخالفات زيـادة مــطـردة فــي البــلاد التـي يحـكـمـها حـثالة أفـكــار الـمشــرعـين الوضعـية لـقـدرة أفــرادهـا عـلـى التـهـرب مـن سـلطـات القـانــون ، ونـجـد أن مـن يعـتـنـق الـشـريـعـة يـعـلـمـون عـلــم اليـقـين أنهـا مـن عـنـد الله وأنـهـا أصـلـح مـن أي نظام كان .
بينما الذين يطبقون القوانين الوضعية ــ للأسف ــ يقيسون الأنظمة بمقياس المصلحة المادية العاجلة فسينظرون لكل نظام جديد ويتطلعون إلي الأخذ بكل ما يرونه أفضل من نظامهم أو مما يمكنهم من الجاه والسلطان ومن ثم نجدهم لا يعيشون مستقرين آمنين .

وصدق قول الله العظيم ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً ) (1) (*) .

2 - [ الــســـــــــنــــة ]

تــعــريــفــهــا :
( هي في اللغة عبارة عن الطريقة فسنة أحد ما عهدت منه المحافظة عليه والإكثار منه كان ذلك من الأمور الحميدة أو غيرها .
أما في الشرع فقد أطلق على ما كان من العبادات نافلة منقولة من النبي صلى الله عليه وسلم وقد تطلق على ما صدر عن الرسول صلى الله عليه وسلم من الأدلة الشـرعيـة مما ليس بمتلو ولا هو معجز ولا داخل في المعجز وهذا النوع هو المقصود هنا ، ويدخل في ذلك أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المائدة : آية 3 .
(*) ينظـر كتـاب التـشـريـع الجـنائـي : عبدالقادر عوده ، ج 1 ص 166  بتصرف واختصار .






ــ 36 ــ 
فالـســنـة الـقـولـيـة : (1) .
ما ورد عن رسول الله من أقوال يقصد بها التشريع وبيان الأحكام ، والسنة بهذا المعنى ترادف الحديث كقوله صلى الله عليه وسلم  ( طلب العلم فريضة على كل مسـلم ) (2) وقـولـه صـلى الله عليه وسـلـم  ( إنما الأعـمـال بالنيـات ولكل امرئ ما نـوى ) (3) .

الـســنـة الـفـعـلـيـة :
ما صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أفعال مثل صلاته وصومه وحجه فان هذا الفعل أو الأداء بهذه الطريقة يعد سنة يجب إتباعها كالسنة القولية سـواء بسـواء لقـوله صلى الله عليه وسـلم ( صـلوا كما رأيتموني أُصلّي ) (4) وقوله ( خذوا عني مناسككم ) (5) .

الـســنـة التقـريـريـة :
هي أن يصدر عن بعض الصحابة قول أو فعل فيسكت النبي صلى الله عليه وسلم ولا ينكره فسكوته وعدم إنكاره يسمى تقريراً ويعد سنة يحتج بها في جواز الفعل أو صفة القول ( مثل تقريره لمعاذ بن جبل حينما بعثه إلي اليمن ) (6) .

حـــجـــيـــتـــهـــــا :
السـنـة أصـل من أصـول الديـن وحجـة على جميع المسـلمين ومصدراً تشـريعياً

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ينظر كتاب الأحكام للآمدي ج 1 ص 169 الطبعة الأولى .
(2) رواه ابن ماجه في المقدمة .
(3) رواه البخاري : بدء الوحي ، ومسلم في الإمارة .
(4) ارواء الـغـليـل : رقم 262 ، 324 .
(5) رواه النـسـائي : مناسك ، ومسند أحمد ج 3 ص 318 .
(6) ينظر أصول الفقه : لحسين حامد ص 271 ــ 272 .


ــ 37 ــ 
واجب الاتباع بنص كتاب الله العزيز ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شـديـد العقاب ) (1) وقـال تعـالى ( ومن يـطـع الـرسـول فـقـد أطـاع الله ) (2) وقال تعالى ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما  ) (3) (*) .
3 - [ الإجـــــــمــــــاع ]
تـــعـــريـــفـــه :
في اللغة يطلق على معنيين :

الأول : العزم والتصميم على الأمر ومن هذا قوله تعالى ( فأجمعوا أمركم وشركاءكم  ) (4) أي اعزموا عليه .

الثاني : الاتفاق يقال أجمع القوم على كذا إذا اتفقوا عليه ، والفرق بينهما أن الإجماع بالمعنى الأول يتصور من الواحد وبالمعنى الثاني لا يتصور إلا من اثنين فاكثر .

في اصطلاح الأصوليين :
يطلق على اتفاق المجتهدين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في عصر من العصور بعد وفاته على حكم شرعي (5) .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الحشر : آية 7 .
(2) النساء : آية 80 .
(3) النساء : آية 65 .
(*) ينظر كتاب خالد عبدالحميد فراج : شرعية العقوبة والجريمة ص 458 .
(4) يونـس : آية 71 .
(5) ينظر أصول الفقه الإسلامي : لزكي الدين شعبان أستاذ الشريعة بكلية الحقوق بالجامعة الليبية ــ الطبعة الثانية سنة 1971 ص 87 ــ 88 .





ــ  38ــ 
أســــاس الإجــــمــــــاع :
أساسه الكتاب والسنة قال تعالى ( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) (1)  ويقصد بأولي الأمر الحكام والعلماء ، فلو أجمع العلماء على حكم وجب اتباعه واحترامه والعمل به ذلك أن طاعة الحكام والعلماء الذين يتحرون طاعة الله واجبة بنص القرآن وبقوله صلى الله عليه وسلم  ( إن الله لا يجمع أمتي على ضلاله  ) (2).
4 - [ الـــــقــــــيــــــاس ]
تـــعـــريـــفـــه :
إلحاق ما لا نص فيه بما فيه نص في الحكم الشرعي المنصوص عليه لاشتراكهما في علة هذا الحكم .
ويؤخذ منه أركان القياس وهي :
1 - المقيس عليه : وهو الأمر الذي ورد النص ببيان حكمه ويسمى الأصل .
2 - الــمــقــيـــس : وهو الأمر الذي لم يرد نص بحكمه ويراد معرفة حكمه ويسمى         الفرع . 
3 - الــــحــــكــــم : وهو الحكم الشرعي الذي ورد به النص في الأصل ويراد الحكم         به على الفرع .
4 - الــــعــــــلــــة : وهي الوصف الذي شرع الحكم في الأصل لأجله وتتحقق في         الفرع (3) .
حـــجــــيــــتــــه :
اختلفوا في إجازة القياس في جميع الأحكام الشرعية فيقول بعضهم بجوازه استناداً إلي إن الأحكام الشرعية من جنس واحد ، وحدها واحد ، ومادام أنه قد جاز على بعض الأحكام أن يكون ثابتاً بالقياس فما جاز على بعض المتماثلات جاز على البعض الآخر .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) النساء آية 59 .
(2) رواه الترمذي /في الفتن . ورواه الدارمي/ في المقدمة ، وفي مسند أحمد ج 5 ص 145 .
(3) أصول الفقه : عبدالوهاب خلاف ص 42 .




ــ 39ــ 
ويقول جمهور الفقهاء بعدم جواز القياس في الأحكام الشرعية وإن كانت تدخل في حد واحد استناداً إلي أن الأحكام الشرعية متميزة متباينة ولما كان القياس له إظهار أن حكم الله ورسوله الذي ثبت لموافقة النص ثابت للواقعة التي تساويها في علة الحكم فإنه يعتبر في الحقيقة مصدراً تفسيرياً يعين على تحديد الأفعال التي يتسع لها النص . فإذا حرم القرآن الكريم فعلاً معيناً لعلة (ما) فإن القياس يؤدي إلي أن يلحق بهذا الفعل كل الأفعال الأخرى التي تتوافر فيها علة التحريم وعلة نهي الشارع كإلحاق اللواط بالزنا (1) .

القياس في الإجراءات :
ويسلم الفقهاء في القياس في الإجراءات الجنائية بل يسلمون به وبغيره من المصادر الأخرى التي لا يعترفون بها مصادر تشريعية جنائية ، كالعرف ، ومذهب الصحابي مثلاً يرى البعض أن يكون الإقرار في السرقة مرتين قياساً على اشتراط الأقارير الأربعة في الزنا ومن يسلم بهذا يرى أن الحكم الخاص بالزنا فقط فلا يقاس عليه ، ويرى البعض جواز شهادة النساء في الجرائم قياساً على جواز شهادتهن في المسائل المدنية ويجمعون على الحفر للمرجوم وهو مذهب علي ، ويشترط أبوحنيفة وأصحابه وجود رائحة الخمر مع شهادة الشهود في إثبات جريمة الشرب و هو مذهب عبدالله بن مسعود.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ 
(1) أنظر كتاب شرعية الجرائم والعقوبات : خالد عبدالحميد فراج ــ الطبعة الأولى سنة 1386 .
(2) التشريع الجنائي : عبدالقادر عوده ــ ص 185 ج 1 .




ــ 40 ــ 
ــ العنصر الثالث ــ
ــ تفسير الأحكام الجنائية ــ

سلطة القاضي في تفسير النصوص :
للقاضي وهو يطبق النصوص أن يفسرها إذا وجد غموضاً أو خفاء في دلالتها أو تضارباً بين عباراتها وفي هذه الحالات يلجأ القاضي إلي تفسير هذه النصوص ملتزماً قواعد التفسير التي استنبطها علماء الأصول من استقراء الألفاظ والعبارات ودلالتها وقوتها في الدلالة .
1 - دلالات الألفاظ والعبارات ومفهومها :
من المعلوم  أنه لكل لفظ دلالته ولكل عبارة دلالتها ويترب على ذلك أن النص الشرعي وهو مكون من ألفاظ وعبارات قد تكون له دلالة واحدة وقد يكون له أكثر من دلالة . ويستدل بالنص عادة على أي مفهومات وهذه المفهومات لا تخرج عما يأتي :
أولاً ـ مفهوم العبارة :
فيقصد به الذي يتبادر إلي الذهن من صيغة النص وهو المعني الذي قصده الشارع .
ثانياً ـ مفهوم الإشارة :
هو المعنى الذي لم يوضع النص من أجله غير أنه لازم لعبارة النص وجدير بالذكر أنه إذا تعارض مفهوم النص مع مفهوم العبارة كان المعول عليه هو مفهوم النص .
ثالثاً ـ مفهوم الدلالة :
فهو المعنى الذي يمكن فهمه من روح النص ومنطقه فإذا دلت عبارة النص على حكم في واقعة (ما) لعلة اقتضت هذا الحكم فإن كل واقعة من جنسها تدخل تحت مفهوم النص إذا توافرت علة الحكم على أنه إذا تعارض المفهومان الأولان مع مفهوم الدلالة كانت العبرة بالمفهومين الأولين .




ــ 41 ــ 
رابعاً ـ مفهوم الاقتضاء :
هو المعنى الذي يقتضيه النص ويستلزمه ، يقول الله عز وجل ( حرمت عليكم الميتة ) (1) وبين من هذه الآية أن مفهوم الاقتضاء إنما هو تحريم الأكل ومن أجل ذلك قدم الفقهاء مفهوم الاقتضاء على غيره .
خامساً ـ مفهوم المخالفة :
يقصـد به المعـنى الذي يخالـف مفهـوم النـص . والواقـع إن النـص إنما يوضـع للحـكـم الذي ينطـق به  ، فهو لا يوضـع لمفهوم المخالف ، ومن ثـم فلا دلالة للنـص إلا على الحكـم الذي يحدده أو يعينـه منطوقـه وهذا هو الراجح 
2 - وضوح الدلالات وغموضها :
تنقسم الألفاظ والعبارات والنصوص من حيث ظهور معناها إلي نوعين :
نوع واضح الدلالة على معناه وليس في دلالته غموض ولا إبهام .
ونوع غامض الدلالة وفيه غموض وخفاء .
والواضح الدلالة ليس على درجة واحدة في وضوحه ودلالته بل بعضه أوضح دلالة من بعض ، كما إن الغامض الدلالة بعضه أخفى دلالة من بعض .
وينقسم واضح الدلالة إلى أربعة أقسام :
أ - الــــظـــــــاهــــــــــــر :
وهو ما دلت صيغته على معناه دلالة واضحة بحيث لا يتوقف فهم معناه على قرينة خارجية ، ولم يكن معناه هو المقصود أصلاً من السياق أي من وضع الصيغة مثل قوله تعالى ( وأحل الله البيع وحرم الربا ) (2) فهنا يفهم من لفظ أحل إن البيع حلال ويفهم من لفظ حرم إن الربا محرم ، وان كان المقصود من الآية نفي المماثـلـة بين البـيـع والربا وهو المعنى الذي سـيقـت له الآيـة دلـيـل على ذلك قولـه تعالى ( ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا ) (3) فأراد الله أن يبين للناس أن البيع غير الربا هذا واللفظ الظاهر يقبل التأويل .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المائدة : الآية 3 .
(2) البقـرة : الآية 275 .
(3) البقرة آية 275 .



ــ 42 ــ 
ب - الـــــــــنــــــــــــــص :
هو ما دلت صيغته دلالة واضحة على معناه المقصود أصالة من السياق وهو أيضاً يقبل التأويل شأنه في ذلك شأن اللفظ الظاهر .
ج - الــــمــــفــــســـــــــر :
هو ما دلت صيغته دلالة واضحة على معنى متصل فينفي معه احتمال التأويل مثل قوله تعالى ( فاجلدوهم ثمانين جلدة ) (1) ويعتبر النص مفسراً ولو ورد مجـملاً غـير مفصـل إذا الحق به الشارع ما يفصله ويزيل إجماله كقوله تعالى ( ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ) (2) فهو نص مجمل ولكن رسول الله بينه وفصله بقوله ( لا يحل قتل امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث زنا بعد إحصان وكفر بعد إيمان وقتل نفس بغير نفس  ) (3) ويجب العمل به كما فصل ولا يحمل أو يؤول أو يصرف عن ظاهره ، والتفسير الذي ينفي احتمال التأويل هو التفسير المستفاد من الصيغة أو المستفاد من بيان تفسيري مصدره الشرع، أما تفسير الفقهاء والمجتهدين فلا يعتبر من التشريع .
د - الــــمــــــحــــــكــــــم :
هو ما دلت صيغته دلالة واضحة على معنى لا يقبل إبطاءً ولا تبديلاً ولا يبقى معها احتمال للتأويل ، ويجب العمل قطعاً ، ولا يحتمل صرفه عن ظاهره .
حــكــم الـتــعــارض :
وإذا تعارض ظاهر ونص رجح النص لأن الشـارع قصد أصالة ، وإذا تعارض 
نص ومفسر رجح المفسر لأنه أوضح دلالة على المراد منه إذ لا يحتمل التأويل وإذا تعارض محكم ومفسر رجح المحكم لأنه أقوى دلالة من المفسر .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 (1) الـنـور : آية 4 .
(2) الأنعام : آية 151 .
(3) رواه النسائي جـ7 صـ92 / ورواه أبو داود / حديث 4502 وفي مسند أحمد  جـ1 صـ61 
     والداري جـ2 صـ171 وفي الترمذي  / حديث 2158 ونصب الراية جـ3 صـ317 .

ــ 43  ــ
أقسام الغامض الدلالة أربعة :
أ - الـــخــــــفــــــــي :
هو ما خفي معناه خفاء يحتاج إلي تأمل وبحث واجتهاد .
ب - المـــشـــــــكــــــل :
هو اللفظ الذي لا يدل بصيغته على المعنى المقصود منه وان أمكن تحديد المقصود بقرينة خارجية والسبيل إلي ذلك هو الاجتهاد .
ج - الـــمـــجـــــمــــل :
ذلك اللفظ الذي لا يدل بصيغته على المعنى المقصود فيه ولا توجد في الوقت نفسه قرينة خارجية تعين تفهم المقصود رغم ازدحام المعاني ولا سبيل للتخلص من اللفظ المجمل أو العبارة المجملة إلا بالاجتهاد .
د - الــمتـــشـــــــابــــه :
هو اللفظ الذي لا تدل صيغته على المراد منه ولا توجد قرائن خارجية تبينه ، واستأثر الشارع بعلمه فلم يفسره وليس في النصوص التشريعية شيء من التشابه فلا يوجد في آيات الأحكام أو أحاديثها لفظ متشابه لا يعلم المراد منه ، وإنما يوجد المتشابه في مواضع أخرى وأمثلته الحروف المتقطعة التي في أوائل السور .
3 - اشتراك الألفاظ وعمومها وخصوصها :
أ - اللفظ المــشــــترك :
هو ما وضع لأكثر من معنى واحد والواقع أن المعاني المقصودة إنما وضعت على سبيل البدل ولا يقصد الشارع إلا أحد هذه المعاني دون غيرها .
ب - اللفظ الــــعـــــــام :
هو اللفـظ الذي وضـع لمعـنى واحـد يعـم أفرادهـا كثيريـن ودلالـة الـعام قـطـعيـة ، وإذا كـان الـلـفـظ عـامـاً ولـم يـقـم الدليـل على تخصصـه تعين محلـه على عمومه. 




ــ 44 ــ 
ج - اللفظ الـــخـــــاص :
هو ما وضع للدلالة على فرد واحد أو على أفراد متعددة فإذا تضمن أي نص شرعي لفظاً خاصاً دل هذا اللفظ على معناه الخاص الذي وضع له دلالة قطعية فيقول الله تعالى ( الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ) (1) فلفظ مائة يدل دلالة قطعية على معناه ولا تحتمل هذه المائة نقصاً ولا زيادة ، وقد يكون اللفظ الخاص مطلقاً أو مقيداً ، وقد يكون آمراً وناهياً .
واللفظ الخاص المطلق يحمل على إطلاقه ما لم يقم دليل على تقييده ، واللفظ الخاص المقيد هو الذي يدل على فرد قيد لفظاً بقيد معين بقوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى ) (2) وقيد رسول الله هذه الأخلاق بقوله ( لا يقاد والد بولده ) (3) واللفظ الخاص الآمر يقيد الالتزام بإثبات العمل المكلف به ونجد هذا اللفظ في قولـه تعالى (  والسـارق والسارقة فاقطعـوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالاً من الله ) (4) فلوحظ اقطعوا لفظ خاص أمر .
أما اللفظ الخاص الناهي ، فإنه يقيد الامتناع والكف ونجد اللفظ في قوله تعالى ( ولا تقربوا الزنا ) (5) .
ومجمل ما تقدم :
أن القاضي الجنائي مقيد بأن يحصر اجتهاده في ضوء القواعد السابقة في تفسير النص وتطبيقه على الواقعة المطروحة عـليه ، فليـس له  تفسـير أي جـريمـة أو عـقـوبة مـن طـريق القـياس أو الـعـرف أو الاستحسان ولـو كــانت الـواقـعـة المعروضـة عـليـه مما ينـفـر مـنهـا الخـلـق الفاضل وليس له أن يخـالف النص الصريح مهما كانـت الظروف والاعتبارات وعليـه أن يراعي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الـنــور : آية 2 .
(2) البـقـرة : آية 178 .
(3) مسند أحمد ج 1 ص 22 .
(4) المائـدة : آية 38 .
(5) الإسراء : آية 32 .

ــ 45 ــ 
في كل الأحـوال مبدأين شرعيين : ــ
أولــهــمــا :
قوله صلى الله عليه وسلم ( ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم ). (1)
الــثـــانــي :
قوله صلى الله عليه وسلم ( إن الإمام لأن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة ) (2) رواه الترمذي . (*)
تعريف الشبهة في درء الحـد : ـ
الشبهة هي ما يشبه الثابت وليس بثابت ، أو هي وجود المبيح صورة مع انعدام حكمه أو حقيقته .
من الأمثلة ما يأتي :
شبهة سرقة الأب من ابنه فالأب حين يأخذ خفية من مال ولده عليه تعريف السرقة ويستحق عقوبة القطع ولكن الحد يدرأ عنه لشبهة تملك مال الولد لأبيه لقوله صلى الله عليه وسلم ( أنت ومالك لوالدك  ) (3) ، ومثل لو وطئ زوج زوجته من دبرها فإنه لا يحد لشبهة وهي جواز استمتاعه بجميع جسدها ، فعلى القاضي أن يدرأ مثل هذه الشبهة ويلتجئ إلي التعزير إن رآه مناسباً .
أما تفضيل الخطأ في العفو عن الجريمة : ـ
معناه أنه لا يصح الحكم بالعقوبة إلا بعد التثبت من أن الجاني ارتكب الجريمة وأن النص المحرم منطبق على الجريمة فإذا كان ثمة شك في إن الجاني ارتكب الجريمة أو في انطباق النص المحرم على الفعل المنسوب للجاني وجب العفو عن الجاني أي الحكم ببراءته لأن براءة المجرم في حال الشك خير للجماعة وأدعى إلي تحقيق العدالة من عقاب البريء مع الشك ومبدأ الخطأ في العفـو ينطبق على كل أنواع الجرائم كالحدود والقصاص والديـة والتعازيـر،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) رواه الترمذي / في كتاب الحدود / حديث 1424 
(2) رواه الترمذي / كتاب الحدود / 1424 
(*) ينظر كتاب : شرعية الجرائم والعقوبات : خالد عبدالحميد فراج ــ ط الأولى ص 461 
     وما بعدها .
(3) سنن أبى داود  في البيوع / حديث / 3530 / وابن ماجه / التجارات / حديث 2292 وعند أحمد في مسند المكثرين 6640 .


ـ46ــ 
ويمكن القول بأن مبدأ درء الحدود بالشبهات على أهميته يعتبر تطبيقاً لمبدأ الخطأ في العفو على الأقل في الحالات التي تؤدي فيها درء الحد لتبرئة الجاني.
الـقـانـون والـشــريـعـة :
وتأخذ القوانين الوضعية بطريقة الشريعة الإسلامية بصفة عامة في التفسير ، وإذا كانت القوانين تمثل تغيير سلطة القاضي في تفسير النصوص الجنائية ، إلا أن المحاكم تحت تأثير الضروريات العملية والرغبة في حماية المصالح العامة إلي التوسع في تفسير النصوص الجنائية من ذلك إنها اخترعت نظرية التسليم الضروري في السرقة لحماية الجمهور من ضرب من ضروب السرقة ، لا يدخل تحت نص القانون إذا أخذ بنظرية التفسير الضيق ، وكذلك اعتبرت المحاكم الكهرباء منقولاً لا تعاقب على اختلاسها بعقوبة السـرقـة، كذلك عاقبت على سرقة أكفان الموتى ، والقاعدة التي تتبعها المحاكم يحبذها شراح القوانين هي عين الطريقة التي تأخذ بها الشريعة الإسلامية (1) .
ويتبين من هذا العرض أن القوانين الوضعية لم تأت بجديد يحتاج إلي أعمال وفكر في استنباطه فقد سبقتهم الشريعة بأكثر من أربعة عشر قرناً ، وبينت هذا الأصل بكل وضوح وصدق قول الله العظيم ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) (2) لأنه تعالى علم أن شريعته المنزلة كاملة لا تحتاج إلي من يكملها ولذلك أطلق على المعتدي على أحكام الله بأنه كافر وآية أخرى وصفه بالظلم وأخرى بالفسق ، فهل آن لمن خادعن شريعة الله أن يرجعوا للشـريعـة الإسـلاميـة حتى لا يـنـطبـق عليهـم أحـكـام تـلك الأوصـاف الثـلاثـة ــ كفر ــ وظلم ــ وفسق ؟



ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ينظر التشريع الجنائي : عبدالقادر عوده ــ ص 209 وما بعدها ــ بتصرف .
(2) المائدة : آية 44 .




ــ 47 ــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
العنصـــر الرابــــــع 
تعارض الأحكام أي النصوص 
إذا تعارض نصان في قوة واحدة كآيتين أو آية وسنة متواترة أو سنتين متواترتين أو حديثين مشهورين أو خبرين من أخبار الآحاد ، وعلم تاريخ ورود كل من النصين المتعارضين كان اللاحق منهما ناسخاً للسابق .
وإذا لم يعلم تاريخ ورود النصين المتعارضين  رجح أحدهما على  الآخر بطريق من طرق الترجيح ، والترجيح إما أن يكون من ناحية المتن وإما من ناحية السند في جهة المتن يرجح الأقوى دلالة فيرجح المفهوم بالعبارة على المفهوم بالإشارة وهكذا ، ويرجح المحكم على المفسر ، والمفسر على النص وهكذا ، ويرجح  العام على المخصص ومن جهة السند يرجح الخبر الذي رواته من أهل الفقه والأمانة وغيرهم .
وإذا لم يرجح أحد النصين المتعارضين على الآخر يجمع بين النصين من طرق الجمع والتوفيق وهذا يكون بتخصيص أحد النصين لحاله وتخصيص الآخر بحالة أخرى أو يجعل أحد النصين مبينا الحكم الدنيوي والثاني الحكم الأخروي أو يجعل أحدهما حقيقياً والآخر مجازياً أو بغير ذلك ، وإذا لم يعلم تاريخ ورود النصين المتعارضين ولم يقم دليل على رجحان أحدهما على الآخر ولم يمكن الجمع والتوفيق بينهما عدل عن الاستدلال بهما إلي الاستدلال بما دونهما مرتبة فان كان التعارض بين متواترين عدل عنهما إلي خبر الآحاد ويراعى دائماً في حالة الترجيح والجمع والتوفيق عدم الخروج على مبادئ الشريعة العامة وروح التشريع فتكون الموازنة بين الدلالة قائمة على ضوء مقاصد الشارع والمبادئ  العامة (1) .


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) عن التشريع الجنائي : عبدالقادر عوده - ص 218 وما بعدها  جـ1 








ــ48ــ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
العنــصــر الخامـــس 

علاقة الأحكام الشرعية بأحكام القوانين 

حكم اللوائح والقوانين المخالفة للقرآن والسنة :
إذا جاءت القوانين واللوائح متفقة مع نصوص القرآن والسنة أو متمشية مع مبادئ الشريعة العامة وروحها التشريعية وجبت الطاعة لها وحقت العقوبة على مخالفها ، أما إذا جاءت القوانين واللوائح خارجة عن نصوص القرآن والسنة أو  خارجة عن مبادئ الشريعة العامة وروحها التشريعية في قوانين ولوائح باطلة بطلاناً مطلقاً وليس لأحد أن يطيعها بل على كل مسلم أن يحاربها ويقوم في وجهها ويكافح بلسانه وقلمه ويبين للمسلمين تفاهة هذه اللوائح والقوانين المخالفة للشريعة لأن الشريعة لم تجئ عبثاً .
فالله تعالى أرسل رسوله ليطاع ويعمل بما جاء به فمن عمل بما جاء به فعمله صحيح لأنه وافق الشارع ومن خالفه فقد بطل عمله قال تعالى : ( وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ) (1) .ووقوف المسلم  تجاه هذه القوانين واللوائح وخروجه عليها يعتبر جائزاً لرضى الله  قال تعالى ( اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قيلاً ما تذكرون ) (2) .  
ومن الأدلة والأمثلة على بطلان النص الواحد في بعض الحالات وصحته في بعـض الحــالات الأخــرى السرقة المادية عقوبتها القطع في الشريعة وعقوبتها الحبــس فـي القــانـون ولـكـن القـطـع لا يجب إلا فـي ســرقـة تـامــة توفرت فيها شــروط الحــد فان لــم تكـن الســرقـة تـامــة أو لـم تتوفر شروط الحد فالعقوبة التعـزيـر ، العـقـوبــة المـقــدرة في قــانون العـقــوبـات هـو عــقــــوبـة تعـزيـريــة ومــن ثــم  يكـون نصــوص قــانــون العـقـوبــات الخـاصــة بالســرقـة باطـلــة فـي كل 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) النساء : آية 64.
(2) الأعراف : آية 3 .



ــ49ــ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سرقة عادية تعاقب عليها الشريعة بالقطع ، وصحيحة في كل سرقة تعاقب عليها الشريعة بالتعزير . (1) .
فتبين  من هذا أن شريعة الله فوق كل شريعة من شرائع الخلق وقوانين الله فوق كل قانون سواء رضي المفسرون بالقوانين الوضعية أم لم يرضوا وأنهم سيؤاخذون يوم القيامة عن كل شيء صدر منهم ومن هذا الشيء تحكيم شريعة الشيطان وتركهم شريعة الرحمن وصدق الله العظيم حيث يقول : ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لايجدوا  في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما ) (2) . وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم ( لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ) (3) .

الكلام على سريان النصوص الجنائية على الزمان 
من المقررات في الفقه الحديث أنه لا رجعة في قانون العقوبات إلا إذا كان في الرجعية مصلحة للمتهم  ، فلا يطبق قانون العقوبات على الماضي في موضوع كان مباحاً قبله ثم حرمه القانون ورتب عليه عقاباً ، وإذا كان القانون السابق  يرتب عقاباً ضعيفاً ويرتب الثاني عقاباً أغلظ فإنه يطبق على المتهم الذي لم يفصل في أمره  القانون السابق ، وإذا كان القانون السابق يعاقب على فعل والقانون اللاحق لا يعاقب عليه فانه لا يعاقب المتهم لأن الفعل صادر مباحاً له بحكم القانون الجديد ولا عقاب عـلـى مـباح ، ولأن المفروض أن إلغاء العقاب قد اقتضته العدالة والمصلحة فلا يـكـون مـن العـدالــة أو المصـلـحـة الاســتمـرار فـي الإجراءات حتى يتم العقاب وكـذلك القـانــون فانه لا يطبق على المتهم إلا اللاحق لأن التخفيف لابد أن يكون لأصـل الـعــدالـة أو المصـلحــة فــلا يطــبق عـلى المـتهـم مـا يـخــالفـهــا بأخذه بالعـقــاب الغـلـيـظ هــذا مــا يـقــرره شــراح الـقانـون الحــديث ويطبـقه القضاء ولذلك 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) عن التشريع الجنائي : عبدالقادر عودةج1  ص223 بتصرف  .
(2) النساء : آيه 65 .
(3) أنظر مسند الأمام أحمد ج5 ص 66 







ــ 50 ــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نظيره في الشريعة الإسلامية يتفق تمام الاتفاق في بعض الأحوال ويتفق في الجملة في غيرها .
أما الأحوال التي يتفق فيها تمام  الاتفاق فيه الأحوال التعزيرية التي يرى ولي الأمر فرضها إصلاحا للناس إذا رأى في إطلاق المباح بالنسبة لها فسادا عاماً لا يصح أن يستمر كالمغالاة في الأسعار فإن العقوبات تتقرر وقت ثبوتها ويجب إعلانها قبل تنفيذ العقوبة بالفعل ومن ذلك طواف النساء مع الرجال  في البيت الحرام ومنه منع إنشاء الآبار في الطريق ومنه إقامة حواجز في الطرقات بمنع المرور فان العقوبات على هذه الأمور وما يشبهها لابد أن يسبقها إنذار مانع فان أقدم أحد بعد الإنذار فقد حقت عليه كلمة العقاب .
وقد ذكر هذا المعنى الفقهاء فقد جاء في كتاب الأحكام السلطانية لأبي يعلى ما نصه ( له أن يمنع الناس من مواقف الريب ومضان التهمة ويقدم الإنذار                                                                                       ولا يعجل بالتأديب قبله ) وعلى الإمام أن يعلن خبر نهيه ليعلمه جميع الناس ويروى في هذا المـقـام أن عـمـر بن الخـطـاب منـع الـرجــال أن يطـوفوا مع النساء فرأى رجلا يطــوف فضـربه بالــدرة فقال الرجال والله أن كنت أحسنت لقد ظلمتني وأن كنت أسأت  فما علمتني فقال عمر أما شهدت عزمتي ألا يطوف الرجال مع النساء ، قال الرجــل مـا شــهـدت لـك عــزمــة فـألـقـى الخـليـفـة الــدرة إليه وقــال لـه اقتـص ) (1) هذا قسم التعزيرات .
أما العـقــوبـات المنـصـوص عـليـهـا في الـكـتاب والسنة فلا جاهل بها بعد ذيــوع الإسلام إن كــان مقيماً بالدار الإسلامية ،  ولكن يعزر من لم يقم بديار الإسلام والـمـسـلم الجـديـد لأنهـمـا لا يعرفان أحـكـام الإسلام لوجود الحجزات الفكرية والمادية .
وفــوق ذلـك مـن يدخـل فـي الإسلام لا يحـاسـب عـلـى ما كـان عـلـيـه من قبل قـال تعـالى ( قـل للذين كـفـروا أن ينتهوا يغفر لهم ما قـد سلف ) (2) .وقوله صلى الله عليه وسلم ( إن الإسلام يجب ما قبلـه ) (3) .  ولأنه صلى الله عليه وسـلم 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تاريخ عمر بن الخطاب / ابن الجوزي / صـ135 ط / دار إحياء علوم الدين / دمشق .
(2) الأنفال : آية 38 .
(3) في مسند أحمد ج4 ص 199 رقم الحديث 17109 .



ـ51ـ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لم يحاسب من قتل عمه حمزة حينما اسلم القاتل ، ولأن القرآن أشار إلي هذه الناحية فقــد حـرم سـبحانه نكـاح زوجـات الآباء ، وأستثنى ما كان منه في الجاهلية قال تعالى ( ولا تنكحوا ما نكح آبائكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتاً وساء سبيلا ) (1) .وقد لوحظ  إن وقائع حدثت قبل نزول الآيات بالعقوبات وكانت هذه الوقائع سبب نزولها ومع ذلك طبقت العقوبة على هذه الوقائع التي كانت قبل نزولها وان كانت هي السبب في النزول منها : 
اللعــــان 
فـانه يروى أن رجــلاً جـاء إلي النبـي صـلـى الله عـليـه وسـلم فقال : ( يا رسول الله إن الرجل يجد الرجل مع أهله فان قتله قتلتموه وإن تكلم ضربتموه وإن سكت سكت على غيظ اللهم بين ) . (2)
فنزل قوله تعالى  ( والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله انه لمن الصادقين والخامسة أنّ لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ويدرء عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله انه لمن الكاذبين والخامسة أن غضب  الله عليها إن كان من الصادقين ) (3) .  وقد طبق على هذه الواقعة  التي كانت سبب السؤال فكان التطبيق على الماضي .
فالجواب على هذا الأشكال أن الحكم كان تخفيفاً من الحكم العام ذلك إن الحكم العام كان حد القذف  فمن يرمي امرأته بالزنا يعد قاذفاً كمن يرمي محصنة غيرها فلا فرق بين زوجته وغير زوجته فلما جاء اللعان كان تخفيفاً من حد القذف فيتحالفان وكل منهما يبرئ نفسه فهو يبرئ نفسه من الكذب وهي تبرئ نفسها من تهمة الزنا وإذا تم اللعان على هذا لم يكن من المستحسن أن تستمر الزوجية لأن الثقة بين الرجل أهله قد فقدت فلا معنى لبقائهما بعد فقدها ، وبهذا تطبق القاعدة المقررة أنه يعاقب المتهم بأخف العقوبتين فطبقت قاعدة اللعان بدل القذف . (4) . 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) النساء : آية 22 .
(2) رواه مسلم / في كتاب اللعان حديث 1495 .
(3) النور آية 6 وما بعدها .
(4) الجريمة : محمد أبو زهرة ص 321 وما بعدها بتصرف .




ــ52ــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وهكذا نجد الشريعة لا تعاقب على الماضي مهما كان عظيم الذنب فتبين مما سبق عظم مبادئ الشريعة السمحة من سريان النصوص على الزمان وأن هذه المبادئ هي التي تأخذ بها القوانين الوضعية ، وأنها لم تعرفها حتى قيام الثورة الفرنسية ، ويظهر أن المبدأ الحديث الذي يراه الشراح ويأخذ به المشرعون هو أن المشرع ليس له في الأصل أن يجعل للقانون أثراً رجعياً ، ولكن له استثناء أن يمارس هذا الحق  كلما اقتضته المصلحة العامة وهذه هي نفس  النظرية الإسلامية .
أما عن تطبيق التشريع الأصلح للمتهم على ما سبق من الجرائم فهي قاعدة معترف بها في كل القوانين الوضعية وإن كانت لم تعرفها إلا في القرن الماضي ونستطيع أن نقول إن القوانين الوضعية بدأت تأخذ بنظرية الشريعة الإسلامية في الأثر الرجعي للتشريع الجنائي وأن ما تعتبره اليوم أحدث الآراء والنظريات في القوانين الوضعية ليس إلا تطبيقاً دقيقاً للنظرية التي جاءت بها الشريعة الإسلامية من أربعة عشر قرناً .
فهل من أذن واعية وعين باصرة تقبل الحق ولا ترى له بديل . (1) .
الكلام في ســريان النصوص على المكان 
الشــريعة الإسلامية عالمية : ــ
قال صلى الله عليه وسلم ( كان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة ) (2) . 
فتبين لنا من هذا النص أن شريعة الإسلام  عامة في كل زمان وفي كل مـكـان ســواء فـي عـهـد رســول الله أم فـي عصـر الذرة والفضاء ، وكان يجب تطـبيـق أحـكــام الشــريعـة على العالم كله شرقه وغريه ، شماله وجنوبه ولكن مرجع  هذا إلى اتساع نفوذ المسلمين وقوتهم وسيطرتهم على العالم كما في العصور الأولى ، أما في وقتنا فيا حبذا لو طبقت أحكام الشريعة في بلدان إسلامية فما بالك بغير الإسلامية .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) التشريع الجنائي : عبدالقادر عودة ص 273 وما بعدها .
(2) رواه البخاري في التميم .حديث 235 وفي كتاب الصلاة ح / 438 .




ــ 53 ــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وجرائم العقوبات منصوص عليها في الكتاب والسنة كالحدود والقصاص عامة لكل البلدان وتطبق على المسلمين وغير المسلمين وإذا ارتكبوا شيئاً منها في ديار المسلمين .
غير أن الفقهاء اختلفوا في بعض الجرائم إذا ارتكبوا  غير المسلم في ديار الإسلام منها شرب الخمر لغير المسلمين .
1  ــ  فذهب الجمهور إلى إقامة الحد على من شرب الخمر من غير المسلمين  كاليهودي والنصراني ، والسبب أن لهم مالنا وعليهم ما علينا ولأن الخمر  محرمة في دينهم ولآثارها السيئة وضررها البالغ في الحياة العامة والخاصة  والإسلام   يريد صيانة المجتمع الذي تظله راية الإسلام ويحتفظ به نظيفاً  متماسكاً لا يأتيه الضعف من أي جانب لا من ناحية المسلمين ولا من ناحية غير المسلمين .
2  ــ  ويرى الأحناف  أن لا عقوبة على من يشربها من الكتابيين لأنه وإن كانت غير  مال - عند المسلمين - لتحريم الإسلام لها إلا أنها مال له قيمته عند أهل  الكتاب ولو  أراقها أحد من المسلمين يضمن قيمتها لصاحبها وإن شربها مباح  عندهم وإننا أمرنا بتركهم وما يدينون ، وعلى فرض تحريمها في كتبهم فإننا  نتركهم لأنهم لا يدينون بهذا التحريم ومعاملتنا لهم تكون بمقتضى ما يعتقدون  لا بمقتضى الحق من حيث هو (1) . والذي أرجحه مذهب الجمهور لما فيه  من المصلحة العامة لنا ولهم ولئلا ينجر أبناؤنا إليهم  إذا رأوهم يشربونها  فيقلدونهم فيكون أذاها قد تعدى إلينا ومن الشروط اللازمة على أهل الذمة أن نأمن على أنفسنا وأولادنا ونساءنا ومقدساتنا من شرهم فيكون إقامة الحد على شرابها منهم موافق لما أمرنا أن نعاملهم من عدم الاعتداء عليهم إذا لم يعتدوا علينا ، ولأن الخمر أم الخبائث فلا يقصر ضررها على شاربها فقط بل  يتعدى إلى غيره . واختلف الفقهاء قي تطبيق بقية الحدود على المستأمنين  والذميين .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) فقه السنة : السيد سابق  ، ج2 ص 398 - 399 ط دار الكتاب العربي ط7 .



ــ 54 ــ 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
  ــ  فيرى جمهور الفقهاء : ــ 
وجــوب تطبيـق الحـدود بأكـملها على هؤلاء ، لأن السبب في عموميات العـقـوبات  عـلى الأشـخـاص مهـما اخـتـلـفـت دولـهـم مـادامــوا يـقـيـمون بين أهل إقـلـيم إسلامي وهو لأجل دفع الفساد ومنع نمو الشر وحفظ الجماعة فكل جريمة تقع هي فســاد فـي الأرض يجـب دفـعـهـا مهما كان مصدرها  ومن أي شخص كان ، ولأن الفقهاء أجمعوا على عموم ولاية الدولة الإسلامية على المسلمين أينما كانوا وحيثما كانوا .
ويرى أبو حنيفة : ــ
التفريق بين  المستأمن والذمي فقرر أن الذمي تسري عليه كل العقوبات الإسلامية ولأن له ما للمسلمين وعليه ما عليهم ،  أما المستأمن فقد قرر أبو حنيفة أن العقوبات التي ليست حقاً للعبد أو حق العبد فيها غالب تثبت عليه والعقوبات التي تكون حقاً خالصاً لله تعالى كحد الزنا أو التي يكون حق الله فيها غالباً كالسرقة فإن العقوبة لا تكون على المستأمن فيه .
وصحته أن المستأمن عندما دخل الديار الإسلامية تاجراً أو مقيماً فيها إلي أمد محدود ، التزم في دخوله قوانين العدالة والإنصاف والمعاملة الحسنة وعدم الاعتداء على حقوق العباد فكانت كل العقوبات التي تنفرد لحقوق العباد كالقصاص حق العبد فيها واضحاً كالقذف .
أما أن يكون خالصاً لله تعالى فانه لم يلتزمه لأن أساسه الولاية ولا ولاية على المســتأمن لأن إقامته لـمـدة مـعـلومة ، وكأن أبا حنيفة نظر إلي أن الحدود التي تكون من حــقــوق الله عـلـى أنها مـن التـدين وهـو لـم يلـتزم بالأمــان الذي أخذ عليه أن ينفذ أحكام الإسلام فـي العــبـادات  (1) . والـــذي أرجـحـه مـذهــب الجـمـهـور لأن الغـرض  من إقـامة الحــدود هـو دفع الفـســاد وقـــطـع دابــر الجـريمـة أنى كانت ومن أين صدرت ، وإلا  فـكـيـف يدخــل هــؤلاء فـي بــلادنــا ونـراه يـســرق ويـزني ويـفـعل الـجرائم ولا ننـكر منكراَ ولا نغـيـره ومـا سـبب ابتــلاء المسلمين بهذه المحن والمصائب إلا بتطبيق هذه القاعدة في كثير من عالمنا الإسلامي فانتشر الفساد وطم وعم فلا حول ولا قوة إلا بالله .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الجريمة : كتاب محمد أبو زهرة ص 333 وما بعدها يتصرف .


ــ 55 ــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حكم ارتكاب المسلم أو الذمي أو المستأمن 
جريمة في دار الحرب 

الرأي الأول الجمهور :  ــ
يقولون بوجوب تطبيق العقوبة على المسلم لعموم ولاية الدولة الإسلامية على المسلمين حيثما كانوا فإذا جاء المسلم إلي الديار الإسلامية وأقر بتلك الجـريـمـة أقــيم عـلـيه الحـد ويقـولون بـوجـوب تطبـيقها على الذمي مادام باقيا عـلـى ذمـته راضــياً بالولايـة الإسلاميـة ، لأنه بانتـمائه للـدولـة الإسلامية بعقد الذمة وبرضاه ببقائه بين أفرادها تكون الولاية الإسلامية ثابتة عليه كما هي ثابتــة على الـمسلم على السواء لأن له ما للمسلمين وعليه ما عليهم ، أما المستـأمن فـيقول الجـمهـور بعـدم تطبـيقها عـليـه إذا ارتـكب الجـريمة خارج الديار الإسلامية لأنه لا ولاية للمسلمين عليه في مدة إقامته في ديار الحرب ولا ولاية للدولة الإسلامية عليه .
أما استحقاق العقوبة إذا فعل جريمة في ديار المسلمين لا لأنه دخل ولاية المسلمين بل لأنه التزم الأحكام  في تلك المدة .

الرأي الثاني أبو حنيفة وأصحابه : ــ
لا عقوبة على مسلم أو ذمي يرتكب جريمة توجب حداً ولا قصاص على الجرائم التي تقع في دار الحرب ولو كانت من مسلم أو ذمي وإن كانت الدية تجب ، ويقوم رأيهم على أساسين :
1  ــ   العبرة بثبوت الولاية الإسلامية الفعلية على الجاني عند ارتكابه فلا  عبرة في  إثبات العقاب بالولاية الحكمية ، لأن العقاب جزاء فعل يقع على المرتكب فلا بد  عند الارتكاب من أن تملك الدولة الإسلامية توقيع ذلك العقاب عند الارتكاب .
2  ــ  أنــه لا يـذهــب دم مـســلم هــدرا فــإذا قــتــل مـسـلم أو ذمـي فـي دار الـحــرب 
مسلماً أو ذمياً فإن القصاص غير ممكن ساعة الارتكاب فلا يثبت ولكن تثبت الدية لكيلا يذهب الدم هدراً .


ــ 56 ــ 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الرأي الثالث أبو يوسف رضي الله عنه : ــ
يوافق رأي الجمهور في أمرين : 
1  ــ   أن المستأمن إذا دخل الإسلام سرت عليه أحكام الإسلام .
2  ــ   أن المعاملات الربوية حرام في دار الحرب  من المسلم كما هي حرام في دار  الإسلام .
ويخالف أبو يوسف الجمهور في أن الجرائم ليس لها عقوبات إلا الديات إذا ارتكبت في دار الحرب . (1) 
والذي أرجحه هو رأي الجمهور لما له من الوجهة واللياقة لأن الإسلام ناسخ لجميع الأديان فيجب أن يعلوا  ولا يعلى عليه .

متى يعتبر الإقليم إسلاميا ؟
يرى أبو حنيفة أن الإقليم يكون إسلاميا بثلاثة شروط 
1  ــ   ظهور الأحكام غير الإسلامية بأن يكون القانون المسيطر قانوناً غير إسلامي  والأحكام التي تنفذ أحكاما مناقضة للأحكام الإسلامية كأن يكون الإسلام يحرم  الربا والقوانين تبيحه ويحرم الزنا والقوانين تبيحه .
2  ــ   أن تكـون متـاخــمـة لـديـار غــيـر المـسـلمـين لـتـكــون ممنوعة على  المسلمين بذلك الاتصال الجـغــرافــي ، فـلـو وجــد إقـلـيم غيـر إســلامـي قـد  أحاطت به الأقاليم الإســلامـيــة فـإنـه لا يـعـد دار حــرب وكـذلـك إذا كـانـت  ثـمـة صحار تتـوســط الأقــاليـم الإســلامـيـة ولا سـلـطـان لأحــد عـلـيهـا لا  تــعـد دياراً غير إســلامـية وكــذلك البحــار الـتي تحـيـط بـها مـياه البحــار  القــريـبة من الديار الإســلامـيــة فـي ولايــة الإســلام لا فــي ضـمـان الــديــار  الحــربـيــة .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ينظر الجريمة والعقوبة - قسم الجريمة / محمد أبو زهرة ص 336 وما بعدها  بتصرف 




ــ 57 ــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
3  ــ   ألا يبقى فيها مسلم ولا ذمي آمنا بالأمان الأول وهو أمان المسلمين ومعنى  هذا الشرط ألا تكون إقامة  المسلم أو الذمي الذي له ما للمسلمين وعليه ما  عليهم ثابتة بمقتضى انتمائه لأهل الإسلام وللدولة الإسلامية بل تكون إقامته  بعهد من حكومة هذا الإقليم بألا تكون ولايته الإسلامية هي التي تحكم إقامته  بولاية أخرى .
فعليه غير الولاية الأصلية الحكمية ، وهذا رأي أبو حنيفة ، وقال أبو يوسف وبعض الفقهاء ومحمد بن الحسن إن العبرة بكون الدار دار إسلام أو دار غير إسلامية هو ظهور أحكام الإسلام فيها ، فإن كانت الأحكام الظاهرة أحكاماً إسلامية فهي دار إسلام وإن كانت غير إسلامية فهي دار غير إسلامية أو دار حرب (1) .
والراجح :  تطبيق رأي أبو حنيفة فتعتبر كل الديار التي أكثرها مسلمون ، من ديار الإسلام ولو أنها لا تطبق أحكام الإسلام وخاصة في وقتنا الحاضر أعاد الله للإسلام هيبته وقوته وعزته ومنعته .

الجنسية في الشريعة :  ــ
تقوم الجنسية في الشريعة الإسلامية على أساس الدار أو بتعبير آخر على أساس الإسلام ومسالمته والتزام أحكامه أو الكفر به ، فأهل دار الإسلام لهم جنسية واحدة سواء كانوا  مسلمين أو ذميين محكومين  بحكومة واحدة أو بحكومات متعددة ، ومهما تميز المصري عن السوري أو العراقي أو المغربي فذلك تمييز محلي أو إقليمي لا يبنى على حكم شرعي ولا يؤدي إلي تمييز في الخارج ، أهل دار الحرب لـهـم جنسية واحدة مهما تعددت بلادهم وحكوماتهم ومهما تميز الإنجليزي عن الفـرنـســي أو الأمريكي فـذلـك تـمـيـيز داخــلـي فـيـمـا بينـهـم ولـكـن أحـكـام الشــريـعــة واحــدة بالنـسـبة لـهــم جــمـيـعاً متفرقين أو مجتمعين على أن الشريعة لا تـمـنـع مـن النـظـر إلي الــدول الأجنبية المـخـتـلـفـة كــل عــلى حده بحسب ظروفها فيـجــوز مـثـلاً أن يـكــون بيـن المســلمين وبـيـن الإنجليز حـرب وأن يـكــون بيـن المـســلمـين وبيـن الـفـرنـســيـيـن عـهـد أو هــدنــه وهـكـذا ، وأســـــاس 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ينظر الجريمة والعقوبة : قسم الجريمة - محمد أبو زهرة ص 959 وما بعدها بتصرف 





ــ58ــ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الجنسية في دار الإسلام اعتناق الإسلام أو التزام أحكامه ، فمن  اعتنق الإسلام فهو مسلم ومن التزم أحكام الإسلام ولم يسلم فهو ذمي وأساس الجنسية في دار الحرب هي إنكار الإسلام وعدم التزام أحكامه .
فتبين لنا من هذا العرض الموجز مدى سريان النصوص الشرعية على المكان وبيان اختلاف العلماء في ذلك وبيان الراجح منها حتى يمكن للنصوص الشرعية أن تطبق على الوجه التي بعثت من أجله لقوله تعالى ( ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل  منه وهو في الآخرة من الخاسرين ) (1) . وتلك النظريات قد أخذت بينها القوانين الوضعية في وقتنا الحاضر مثل مبدأ منع الأجانب من دخول أرض الوطن وعدم دخول الأجانب أرض الوطن إلا بإذن على أن يقيموا إقامة مؤقتة ومثل امتلاكهم لجو بلادهم وبحاره وصحاريه ، فالشريعة قد سبقتهم بها فما جاءوا بشيء جديد يستحق العناية والتبجيل (2) .




ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) آل عمران : آية 85 .
(2) ينظر التشريع الجنائي الإسلامي : عبدالقادر عوده  جـ1- ص 307 بتصرف .


ــ 59 ــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
العنصــر الرابــــــع
سريان النصوص الجنائية على الأشخاص
إن القانون الإسلامي الجنائي في تطبيقه لا يفرق بين الناس والطبقات فالكل سواء أمام  القانون  لا فرق بين شريف وضعيف  ولا غني ولا فقير ولا عربي ولا عجمي ولا حاكم  ولا محكوم فالناس يتفاوتون  في  العقل وكل ذي فضل له فضله ولكن في العقاب هم سواء إن كان منهم سبب للعقاب ، ولقد وردت بذلك النصوص الـدينـية المـقــررة لـمـبدأ المساواة  في الأحكام التشريعية قال تعالى ( يا أيها الناس إنا خـلـقـناكــم  مــن ذكـر وأنثـى وجـلـعـناكــم شـعـوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) (1) . ولقد قال صلى الله عليه وسلم ( كلكم  لآدم وآدم من تراب لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى ) (2) . ولقد أهم قريش شأن المخزومية التي سرقت عقب فتح مكة  والإسلام مازال جديد بين قريش فكلموا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشفع في شأنها فقال صلى الله عليه وسلم ( أتشفع في حد من حدود الله ثم وقف خطيباً يقرر مبدأ المساواة بين الناس في أحكام الشرع الإسلامي فقال كلمته الخالدة  [ أيها الناس إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف فيهم تركوه وإذا سرق  الضعيف قطعوه وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ] (3) . فهذا قول حازم قاطع بأنه لا تفاوت عن العقوبة إذا تفاوتت الأنساب لأن الجريمة واحدة وهي تضع صاحب النسب الشريف حتى يقتص منه ، فالجريمة صغار ولا اعتبار للرفعة في موضع الصغار ، وإذا كان لها اعتبار فلتكبر الجريمة ويكبر معها العقاب ( ولقد كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يقرر إن القوي ضعيف حتى يؤخذ الحق منه والضعيف قوي حتى يؤخذ الحق له ، وكان يقبل إن يقـتـص مـنـه إذا آذى إنســانـا بـغـيـر حــق وكــان ينـهي الأمراء أن يضربوا  أبشــار الناس ويهــددهــم وهــو صادق في عزيمته ، أنهم إن ضربوا الناس ليأخــذنهم بحكم القصاص وقد نفذ ذلك فعلا عندما علم أن ابن عمرو بن العاص ضرب 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الحجرات : آية 13 .
(2)سنن الترمذي في المناقب : ومسند أحمد جـ3 ص 524 .
(3) في البخاري : مغازي ، وفي مسلم في الحدود .




ـ 60 ــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فتى مصرياً لأنه سبقه فأحضره وأعطى السوط للمصري ليقتص من إبن عمرو وكان كلما سكت قال زد ابن الأكرمين وكان يكرر هذه الكلمة لأن ابن عمرو نطق بها عندما كان منه الاعتداء ) (*) (1).  هكذا ما كان يفلت من العقاب أحد  لشرفه  ، ولا يخرج عن حكم  الإسلام أحد لنسبه وأن النبي صلى الله  عليه وسلم كان ينادي  [ يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم من الله شيئاً ] (2) . ولقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه ( لوددت أني وأياكم في سفينة في لجة البحر تذهب بنا شرقاً وغرباً فلن يعجز الناس أن يولوا رجلاً منهم فإن استقام اتبعوه  وإن ضعف قتلوه فقال طلحة بن عبدالله : وما عليك لو قلت وإن تعوج عزلوه ، قال الموت أنكل  لمن بعده  ) .
وفقهاء الشريعة الإسلامية وإن كانوا يشترطون في الإمام الأعظم شروطاً لا تتوفر في كل شخص الإ أنهم يسوونه بجمهور الناس أمام الشريعة وهذا متفق عليه فيما يختص بالولاة والحكام والسلاطين والملوك الذين يخضعون للخليفة أو يستمدون سلطتهم منه ، إلا أنهم اختلفوا في الإمام الأعظم للمسلمين هل يقام عليه الحد أم لا ؟.
1  ــ   فيرى الحنفية : التفريق فيما إذا اعتدى على حقوق الله فلا يقام عليه الحد أما  حقوق العباد كالقصاص والمال فيؤخذ به ، وحجته أن الحد حق لله وهو  المكلف بإقامته ومن المعتذر أن يقيم الحد على نفسه بخلاف القصاص ونحوه  من المتلفات فان المجني عليه له حق الدعوى عند القاضي ليخاصم رئيس  الدولة الأعلى .
2  ــ   ويرى الجمهور : استواء الإمام في كل شيء يقترفه ويقام عليه الحد سواء  كانت لله أو العباد ، وحجتهم عموم النصوص ، ولأن الجرائم محرمة  ، ويقيم  عليه الحد واحد ممن ينوبون  عنه ممن لهم تنفيذ هذه العقوبة   (3) . والذي  أرجحـه هـو تنفيذ العقـوبة عـلى الوالي  لعمـوم الأدلة ولأنـه القـدوة للمسـلمين 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) ينظر اخبار عمر  / علي الطنطاوي / ص143 / المكتب الإسلامي 
(1) ينظر الجريمة والعقوبة - قسم الجريمة : محمد أبو زهرة ص 347 .
(2)أنظر صحيح مسلم جـ1 ص 114 وفي صحيح البخاري جـ1 385 .
(3) ينظر التشريع الجنائي الإسلامي : عبدالقادر عودة جـ1 ص 320 .




ــ 61 ــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إذا لم يخش بعد إقامة الحد عليه أن يكيد للشريعة ويجور عليها وعلى رعيته ويظلمهم ويضيق عليهم بحجة أنه الإمام الأعظم فإذا خشى منه ذلك فالأولى عدم إقامة الحد عليه تطبيقاً لقاعدة ( ارتكاب أدنى المفسدتين دفعاً لأعلاهما ) .
ومما يجعل الشريعة خالدة متفوقة وجود المساواة بين المسلمين والذميين في تطبيق النصوص الشرعية فيما كانوا متساوين فيه أما ما كانوا مختلفين فيه من الاحكام فلا تسوى بينهم وهذا في منتهى الحرية الدينية كما قال تعالى [ لا إكراه في الدين ] ( ويحضرني في هذه المناسبة قصة رجل أمريكي في مدينة  الظهران - بالمملكة العربية السعودية - حصل بينه وبين رجل سعودي مشكلة فترافعا إلي القضاء فحكم للرجل الأمريكي بموجب البيانات التي تقدم بها إمام القاضي ، فلما رأى عدالة الإسلام وإنصافه ومساواته أعلن إسلامه منذ  ذلك الوقت )  فهذه هي المساواة في الشريعة لا تفرق بين لون ولون ولا فرد على فرد وهذا في منتهى العدالة والإنصاف وإعطاء كل ذي حق حقه وهذا هو الذي فوّق الشريعة الإسلامية وجعلها شامخة فوق كل القوانين الوضعية التي لم تعرف المساواة ولا معناها حتى قيام  الثورة الفرنسية فجعلت المساواة أساساً من الأسس الأولية في القانون وأصبحت القاعدة  تسري على نصوص القوانين الوضعية في هذا المضمار فلم يطبق كما أرادوا بل لا تزال آثاره من تفرقة عنصرية وتقاليد قديمة راسخة في أذهانهم مهما حاول المفكرون ابعادها .
والأمثـلــة عـلـى ذلـك كـثـيـرة نـقـتصـر عـلـى واحــد مـنها  وهو تمميز الأغــنـياء عـلـى الفـقـراء فـي كـثـيـر مــن الحالات ففي قانون تطبيق الجنايات المـصـري مــا يـوجـب عـلى القـاضــي أن يحـكـم بالحـبـس فــي كـثـير من الجرائم عـلـى أن يـقــدر للمـحـكـوم عـليـه بكـفـالــة مـالية إذا دفعها أجل تنفيذ الحكم عليه حـتى يفـصـل فــي الاستـئنـاف وإن لــم يـدفــعـهـا حـبـس دون انتـظـار لنتيجة الاستئناف .
وفي هذا مبدأ الخروج على فكرة المساواة إذ يستطيع الغني دائماً أن يدفع الكفالة فلا ينفذ عليه الحكم بينما يعجز الفقير عن دفعها في أغلب الحالات فينفذ عليه الحكم في الحال .
ـــــــــــــــــــــــــــ
1- سورة البقرة آية 256.



ــ  62 ــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ويجيز قانون تحقيق الجنايات المصري للمتهم المحبوس أن يعترض على حبسه فينظر اعتراضه  أمام القاضي وللأخير أن يفرج عن المتهم بضمان مالي ، وفي تقرير مبدأ الضمان المالي خروج ظاهر على مبدأ المساواة لأن الغني يستطيع دائماً أن يدفع الضمان المالي فيخرج من حبسه ،  أما الفقير فهو في أغلب  الحالات عاجز عن دفع الضمان فيظل رهين محبسه وقد تقضي المحكمة ببراءته مما نسب إليه فتكون النتيجة أنه حبس لا لأنه أجرم بل لأنه عجز عن دفع الكفالة أو بتعبير آخر  لأنه فقير .
وقد يدهش كثير من مفكري الغرب ومشرعيهم حينما يعلمون أن الشريعة الإسلامية قد عرفت وحثت على نظرية المساواة من مدة أربعة عشر قرناً بينما لم تبدأ القوانين الوضعية إلا في آخر القرن الثامن عشر ويستطيع المفكرون المثاليون طلاب المساواة التامة أن يرجعوا إلي الشريعة الإسلامية فيجدون المساواة قائمة فيها ، يحوطها جمال التكوين وجلال التقنين وعدالة التشريع ما يبهر أبصارهم ويحير ألبابهم ولكن دون شك يحقق أحلامهم ويشبع أطماعهم   (1) . وقد تكلمنا في المميزات بين الشريعة والقانون عند المساواة فلا داعي للاطالة هنا .



ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)  ينظر التشريع الجنائي : عبدالقادر عودة جـ1 - ص 312  بتصرف .



ــ 63 ــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الـــركــن الثــــانـــي 

الركــن المادي :  ــ
وســيكون الكـلام عــن هـذا الـركـن متعـلـقاَ بالـشـروع بالـجـريـمـة ،  والاشتراك بالجريمة : 
أما  الشروع في الجريمة : فيقول البعض إنه لم يكن لنظرية الشروع بالمعنى الذي يفهم منها الآن وجود في عهد تطبيق الشريعة الإسلامية إذ أنه وفقاً لأحكام الشريعة الإسلامية للقاضي أن يعزر كل من ارتكب معصية ليس لها حد مقدر في الشرع بما يراه زاجراً له ورادعاً لغيره .
ويقـــرر البعـض الآخــر أن الفــقـهـاء لـم يعـبـروا عــن الجــرائـم غيـر التـامـة بتعبير الشروع لأن الأفعال التي لم تتم تدخل في جرائم التعازير كما تكون معصية . 
وتعتبر جرائم بذاتها تامة ولو إنها لم تكف لتكوين الجرائم المقصودة أصلاً فـليــس هــنـاك مــا يـدعــوا لتقسيمها بالجرائم المشروع فيها مادام أن ما تم منها يعـتـبـر فــي ذاتــه جــريـمـة تـامـة ، وإذا عبرنا اليوم عن الجرائم غير التامة وقلنا إنـهـا جــرائــم الشــروع فـلـن نـأتــي بـشـيء جـديد وإنما هو إطلاق تسمية جديدة عـلـى بـعـض جــرائـم التعــازير وتمييز لبعض جرائم التعزير عن بعضها الآخر دون أن تكون هناك حاجة ملحة لهذه التسمية أو هذا التمييز ودون ألا يدفعنا  إلي هذا التعبير إلا البيان والإقناع  ومقارنة نظرية الشريعة بما يماثلها من القوانين الوضعية .
والحقيقة أن الشريعة كانت سباقة  في العقاب في هذه المسائل وإن لم يخصص فقهاؤها الأقدمون باباً خاصاً لهذه النظرية  ومع كل فقد وجدنا  فروضاً كثيراً بين طيات كتب الفقه الإسلامي تعبر عن الشروع في الجريمة دون أن يسميها الفقهاء بهذا الإسم المستحدث   (1) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أنظر كتاب ( نظريات الفقه الإسلامي ) لأحمد فتحي بهنسي ص 37 - 38 طبع سنة 1382  



ــ 64 ــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وهذه هي المراحل لتنفيذ الجريمة في الشريعة :
1  ــ   مرحلة النية والتفكير : 
النية هي قصد الإنسان بقلبه وما يريده بفعله فهي بذلك تختلف عن الإرادة  وهي تعمد الفعل المادي أو الترك ، وتختلف عن العزم الذي هو تعمد النتيجة  المترتبة على الفعل فهي أخف منه مرتبة كما أنها سابقة عليه فالنية ما لم  تظهر إلى الوجود فلا يعاقب عليها انما قد يكون فيها الإثم الديني فقد يكتب  للإنسان ماله أو عليه ما لم يفعله لقوله صلى الله عليه وسلم : ( يبعث الناس  على نياتهم ) (1) .  أما النية التي تعقد في النفس على ارتكاب جريمة  من  الجرائم سواء كانت هذه الجريمة تستوجب حداً أم قصاصاً أم دية أم تعزيراً فمادامت لم تخرج إلى حيز التنفيذ  فلا عقوبة دنيوية فالقاعدة في  الشريعة أنه لا  عـقاب على حديث النفس في الجريمة قبل ارتكابها  لقوله صلى الله عليه  وسلم : ( إن الله تجــاوز لأمتي عما وسوست أو حدثت به نفسها ما لم تعمل  به أو  تتكلم  ) (2) . وقال صلى الله عليه وسلم ( من هم بسيئة فلم يفعلها  لم تكتب عليه فإن عملها كتبت سيئة واحدة ) (3) . 
2  ــ   مــرحـلــة التحضيــر :
هي المظهر الخارجي للتفكير والتصميم والعزم على ارتكاب الجريمة والأصل أن الأعمال التحضيرية لا يعاقب عليها في التشريع دنيوياً إلا إذا كانت بذاتها تكون معصية يجب فيها التعزير وقد يكون فيها عقاب الآخرة والعلة في عدم اعتبار  دور التحـضـير جريمة أن الأفعال التي تصدر من الجاني يجب العقاب عليها أن تكون معصية ولا يـكــون الفـعـل معـصيـة إلا إذا كــان اعتـداء عـلـى حــق الله أو حــق للجماعة أو عــلى حــق للأفراد وليس في اعداد وسائل الجريمة في الغالب ما  يعـتـبـر اعـتـداء ظـاهـراً عـلى حـق الجماعـة أو حـقـوق الأفـراد وإذا أمكـن اعتبـار بعض هـذه 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) يراجع الترغيب : تخريج الألباني رقم 11 .
(2) رواه البخاري في العتق ومسلم في الايمان .
(3) بما معناه في مسند أحمد جـ2 ص 315 . 
* ينظر كتاب نظريات الفقه الإسلامي : أحمد  بهنسي ص 38 .



ــ 65 ــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الأفعال اعتداء فإنه اعتداء قابل للتأويل أو مشكوك فيه والشريعة لا تأخذ الناس في الجرائم بالشك وإنما باليقين .
3  ــ   مرحــلــة التنفيــــذ : ــ
هذه هي المرحلة الأخيرة التي تعتبر فيها أفعال الجاني جريمة ويعتبر الفعل  جريمة كان معصية أي اعتداء  على حق الجماعة أو حق الفرد وليس من  الضروري أن يكون الفعل بدأ في تنفيذ ركن الجريمة المادي بل يكفي  أن  يكون الفعل معصية وأن يكون مقصوداً به تنفيذ الركن المادي  ولو كان لا يزال بين الفعل وبين الركن المادي أكثر من خطوة ويعتبر الجاني مرتكباً  لمعصية يعزز عليها .
مثلاً في الزنا إذا دخل منزل المرأة التي يقصد الزنا بها أو اجتمع بها في غرفة واحدة أو قبّلها أو ضمها أو فعل غير ذلك من مقدمات الزنا فهو يعاقب بالتعزير على هذه الأفعال ولو أن بينه وبين الفعل  المادي المكون للجريمة أكثر من خطوة   (1) .
عقوبــة الشـــــروع : ــ
وقديما لاحظ الفقهاء أنه لايمكن أن تستوي الجريمة التامة مع الشروع فيها ، ففي جرائم الحدود لا يعاقب  على الشروع فيها بالحد وأنما بالتعزير ويتدرج هذا التعزير كلما اقتربت من الاكتمال وهي النظرية التي أخذ بها المذهب الوضعي . (2) .
ورد في الأحكام السلطانية - للماوردي : ــ
( إذا جـمــع المــال  في الحرز واسترجع منه  قبل إخراجه ضرب أربعين ســوطــاً وإذا نـقــب الحــرز ودخـــل ولـم يأخذ ضــرب ثـلاثــين ســوطــاً وإذا نـقـب الحرز ولـم يدخـل ضــرب عـشـرين سـوطـــاً وإذا تـعـرض للـنقـب أو الفـتـح للـبـاب ولم يكـملــه  ضـرب عـشـرة أســواط وإذا وجـد مـعـه منـقـب أو كــان مـراصـداً للمال يحقق معه ) (3) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ينظر كتاب التشـريع الجـنائي الاســلامي : عبدالـقادر عوده -  ص 374  - 348  مختصر 1   
     جـ1.
(2) ينظر كتاب نظريات في الفقه الجنائي الإسلامي : أحمد فتحي بهنسي ص 47 .
(3) الأحكام السلطانية / الماوردي / صـ237  ط / الثاينة / 1386هـ .




ــ 66 ــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بين الشريعة والقانون :
تتفق الشريعة مع القوانين  الوضعية في عدم العقاب  على مرحلتين التفكير والتحضير وفي قصر العقاب على مرحلة التنفيذ ، ولكن شراح القوانين الوضعية يـخـتـلـفون عـلـى الـوقــت الـذي يـعـتـبر فـيـه الجـاني قد بدأ فيه التنفيذ فأصحاب المـذهــب الـمـادي يرون أن بدأ التنفيذ الموكن للشروع هو البدء في تنفيذ الفعل المادي المكون  للجريمة ،  فإذا كانت الجريمة تتكون من فعل واحد كان الشروع هو البدأ في تنفيذ هذا الفعل وإذا كانت تتكون من جملة أفعال كان  البدء في تنفيذها شروعاً في الجريمة ولا يعد بدأ في التنفيذ أي عمل آخر  لايدخل  في الأفعال المكونة  للجريمة .
ويرى أصحاب المذهب الشخصي أنه يكفي لتحقيق  الشروع أن يبدأ الفاعل تنفيذ فعل ( ما ) سابق  مباشرة على تنفيذ الركن المادي للجريمة ومؤد إليه حتماً ويستعين أصحاب هذا المذهب بنية الجاني وشخصيتة لمعرفة  الغرض الذي قصده من فعله ، والمذهب الشخصي  لا يختلف في شيء عن نظرية الشريعة الإسلامية  فكل ما يمكــن العـقـاب عـلـيـه بحـسـب الـمـذهب تعاقب عليه الشريعة ولكن نظرية الشريعة مــع هــذا تتـســع لأكـثـر مـا يـتـسع له المذهب الشخصي ، لأن الشريعة تعاقب على كـــل مــا يـأتـيـه الجــاني إذا تـكـون مــا فـعـلـه  معصية سواء كان ما فعله  الجاني مؤد حتماً إلي الركن المادي للجريمة المقصودة  أو لا يؤدي إليه كدخول منزل بقصد الزنا بأمرأة منه .
أما المذهب الشخصي فيستوجب أن يكون الفعل مؤد حتماً للركن المادي كالنقب وفتح محل السرقة بمفتاح مصطنع    (1) .
وهكذا نرى من هذه المقارنة تفوق الشريعة في هذا المضمار وسبقها للقوانين الوضعية التي لم تعرف هذه المراحل إلا في الوقت الحاضر ، وهذا سبب صلاحها لكل زمان ومكان وصدق قول الله العظيم : [ ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً ] (2) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) التشريع الإسلامي : عبدالقادر  عودة - ص 349 جـ1 
(2) النساء : آية 82 .



ــ 67 ــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عدول الجاني عن الفعل  :
إذا شــرع الجــاني  فـي ارتـكـاب الجـريـمـة فـإمــا أن يتـمـهـا وإما أن لا يتمها فــإذا أتـمهـا فـقـد اسـتـحـق عـقـوبـتـهـا وإن لــم يـتـمها فـإمــا أن يكون أكره على عــدم إتمـامـهـا كـمـن يضـبط وهــو  يجـمـع الـمـسـروقــات مـن مـحـل الـسـرقــة ، وإمـا أن يكـون هــو الــذي عــدل مخـتـاراً  عــن إتمامها وفي حالة العدول إما أن يكــون  الـعـدول لســبب ( ما ) غـيـر التـوبـة  كــأن يكـتـفـي الجـانــي بـما فعل أو يرى أنه ينقصه بعض الأداوات أو  يرى أنه يعاود  الكرة في وقت مناسب أو يخشى أن يراه أحد وإما أن يكون سبب العدول هو توبة الجاني  وشعوره بالندم ورجوعه إلي الله .
فإذا كان سبب عدم إتمام الجريمة هو إكراه الجاني على ذلك كأن يضبطه المجني عليه أو يصاب بحادث يمنعه من إتمام الجريمة فإذا كان فلا يؤثر على مسئولية الجاني في شيء مادام أن الفعل الذي أتاه يعتبر معصية  وإذا عدل الجاني عن تمام الجريمة لأي سبب غير التوبة فهو مسئول عن الفعل كلما اعتبر الفعل مععصية أي اعتداء على حق الجماعة أو حق الفرد فمثلاً إذا قصد سرقة  منزل فنقبه أو كسر الباب ثم عدل عن دخوله لأنه رأى الحارس يمر في هذه المنطقة فخشي أن يكشف الحادث أو دخل المنزل ثم خرج دون أن يسرق شيئاً لأنه عجز عن فتح خزانة النقــود  أو ليـأتـي بـزمـيل لـه يعاونه في فتح الخزانة أو يعاونه على حمل المسروقات  فـهـو فـي كـل هـذه الحالات يعاقب بالرغم من عدوله لأنه عدل لسبب غير التوبة ولأن ما وقع منه فعلاً معصية فالنقب معصية ، أما  إذا وصل إلي باب  المنزل بقصد السرقة ثم عدل لأي سبب وعاد فانه لا يعاقب لأن ما فعله لا يعتبر اعتداء على حق الجماعة أو حق الفرد ثم لا يعتبر معصية وإذا لم يعتبر الفعل معصية فلا عقاب .
أمــا الـعـدول للـتـوبــة فـقـد وقع فيه خلاف  بين الفقهاء فيما عدا جريمة الحــرابــة  لـقــولـه تـعـالـى فـي شــأن المـحـاربين  ( إلا الذين تابوا من قبل أن تقــدروا عــلـيـهـم ) (1) . فـيــرى الـشـافـعــي وأحـمـد أن التــوبـة تسـقط العقوبة فيما 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المائدة : آية 34  .




ــ 68 ــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يختص بحق الله أي أن تكون ماسة الجماعة كالشرب والزنا ونحوهما وأما تكون ماسة فيما يتعلق بحقوق الافراد وكون التوبة مصحوبة بإصلاح العمل فحجتهم ذكر القرآن حد السارق واتبعه بذكر التوبة في قوله تعالى [ فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه ] (1) . وقوله صلى الله عليه وسلم : ( التائب من الذنب كمن لا ذنب له ) (2) . وقوله صلى الله عليه وسلم في قصة ماعز : ( هلا تركتموه يتوب فيتوب الله عليه )  (3) .  أما مالك وأبو حنيفة وبعض الفقهاء في مذهب الشافعي وأحمد فيرون أن التوبة لا تسقط العقوبة إلا في جريمة الحرابة ، حجتهم عموم الأدلة من غير تفرقة بين تائب وغير تائب لقوله تعالى [ الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ] (4) . وقطع الرسول صلى الله عليه وسلم يد السارق مع أنه أتى إليه تائباً ، ورجم ماعزاً والغامدية مع  توبتهما .
أما ابن تميمية وابن القيم يريان أن العقوبة تطهر من المعصية وان التوبة تطهر من المعصية وتسقط العقوبة في الجرائم التي تمس حق الله فمن تاب بعد جريمته سقطت عنه  العقوبة إلا إذا رأى الجاني أن يطهر نفسه بإقامة الحد عليه فيقام  مع توبته  (5) .


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المائدة : آية 39 .
(2) ابن ماجة في الزهد .
(3) يراجع إرواء الغليل تخريج الألباني رقم 2322 .
(4) النور : آية 3 .
(5) التشريع الجنائي الإسلامي : عبدالقادر عوده جـ1- ص 350 وما عبدها بتصرف .



ــ 69 ــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الاشــتراك في الجريمة  :

لا شك أن من ارتكب جريمة واحدة فهو المسئول عنها أمام قانون الشريعة والقانون الوضعي .
ولكن فقهاء الشريعة وقع بينهم خلاف فيما إذا حصل اشتراك مباشر أو بتسبب ، فيفرق أغلب فقهاء الشريعة بين مسئولية الشريك المباشر في حالة التوافق والتمالؤ فـفـي الأولـى يسـأل كــل شــريك عــن نتـيـجـة فـعـلـه فـقـط ، أمــا فـي حـالـة والتمالؤ فيـسـأل كــل مـنهمـا عـن الـقتل ، ومعنى التوافق أن نتيجة ارادة المشتركين في الجــريـمـة الـى ارتكـابـهـا دون أن يـكـون بينـهـما اتـفـاق سابق بل يعمل كل منهما تحــت تأثيـر الـدافـع الشـخصـي والفكرة الطارئة ، ففي هذه الحالة لا يسأل كل منهما إلا عن فعله .
أما التمالؤ فيتحقق بوجود اتفاق سابق بين الشركاء المباشرين للقتل ونحوه فيحصل منهم تعاون في إثناء الجريمة ففي هذه الحالة يعتبر كل منهم مسئول عن القتل لهذا التمالؤ .
أمــا أبــو حــنيـفـة فــلا يفــرق بيـن التـمــالـؤ والتــوافــق فـالــحــكم عنده واحــد أمــا بـقـيـة الائـمــة فـيـفــرقــون بيــن التــوافـق والتـمـالــؤ عـلـى ما سبق عــلـى أن بـعــض الفـقـهــاء فــي مـذهــب الشــافــعـي واحـمـد يأخذون برأي أبي حنيفة .
اختلاف العلماء فيما إذا كان المباشر آلة في يد الآمر : - 
يرى مـالـك والشــافـعي وأحـمـد انه يعـتـبر الآمــر فـاعــلاً مباشراً للجريمة  ولــو أنـه لم يبـاشــر الفـعـل  الـمـادي لأن المـأمور اداة فــي يـد الآمــر يحركه كيف يشــاء أمـا أبو حـنيفة فيرى أنه لا يعتبر الآمر مباشراً إلا إذا كان الآمر مكرهاً للمأمور فإن لم يبلغ درجة الإكراه فهو شريك بالتسبب  فقط وليس مباشراً ولا ياخذ حكم المباشر .



ــ 70 ــ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 
أثر ظروف المباشر على العقوبة وتأثير عقوبة الشريك بظروف شريكه : 
إذا كـانــت عـقــوبـة الجـريـمـة واجـبة على كل مباشر وان اشترك مع غيره إلا 
إن عقوبة كل مباشر تتأثر بظروفه الخاصة   والأصل في ذلك إن العقوبة المستحقة علـى كــل جـان تتـأثـر بصـفـة الـفـعـل وصـفـة الـفـاعــل  وقصد الفعل فقد يكون الـفـعـل بالنـسـبة لأحــد الجـنـاة اعـتـداء وبالـنسـبة للثــاني دفـعاً لصائل أي دفعاً شـرعـيــاً وبالنـسـبة للثـالث تأديبيـاً وقــد يكـون أحـد الفـاعـلـين مجـنونـاً وأحدهم عـاقــلاً وقـد يكـون أحـدهـم عـامـداً والآخر مخطئاً وكل هذا يؤثر على العقوبة فمن كان في حـالـة دفـاع شـرعـي تأديبي لا عقاب عليه إذا لم يتجاوز حد الدفاع أو التأديب ومـن كـان مجنوناً فـلا عقاب عليه بخلاف العاقل المميز ومن كان مخطئاً ثبتت عقوبة العامد .
 اختلاف الفقهاء في تلك المسائل .
يرى بعضهم أنه قد يكون القاتل  الصبي أو المجنون فهذه شبهة يدرء بها الحد عن الشريك العاقل المميز لقوله صلى الله عليه وسلم : (  ادرءو الحدود  عن المسلمين  ما استطعتم ) (1) . ورأى البعض  أن لا شبهة فلا يدرء الحد ويعاقب كل على جريمته المستحقة ، فتبين لنا أن خلافهم ليس على قاعدة  درء  الحدود بالشبهات ونظرية الشريعة في عدم تأثير عقوبة الشريك المباشر بظروف شريكه تتفق تمام الاتفاق مع نظرية القوانين الوضعية فهذا مما يدل على صلاحية الشريعة لكل زمان ولكل مكان . فهل من  مجيب .
الجريمة بالتسبب : ــ
الجريمة بالتسبب هي التي تتوسط إرادة الجاني والنتيجة إرادة أخرى كما أشرنا فيما مضى وقد قسمها ابن قدامة إلي ستة أقسام واختصرها محمد أبو زهرة إلي أربعة اقسام .
أولاً :
الاكراه كما تقدم وسيأتي له ايضاح .
ثانياً :
الشــهــادة التــي تــؤدي إلي تـلف النفس أو العضو ثم تبين أنها شهادة 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) رواه أبو داود : في الصلاة ، والترمزي في الحدود . حديث 1424 .
(2) ينظر التشريع الإسلامي : عبدالقادر عوده جـ1 ص 360 وما بعدها بتصرف .


ــ 71 ــ 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
زور فـان الشــاهـد قــد ارتكـب شـهـادة الــزور وقــد أدت هذه الشهادة  إلي قتل النـفـس أو قـطـع الـيـد كالـشـهـادة فـي السـرقــة أو الـى حــد القــذف كالشهادة فيه ولــم تـكـن النـتـيـجـة مـن فـعـلهمـا بـل مــن فـعـل غـيـرهـمـا وهـو الحـاكــم الــذي حـكـم فـالجـريمـة إذن لــم تـكـن مـباشــرة لأنـه تـوسـط بيـن الـفـعـل أو الـقـول والنتيجة إرادة أخرى .
ثالثا :
الحـاكـم إذا حــكـم بالـقتـل أو قـطـع عـضـواً أو حــد ظـلـمـاً وهو يعـلم أنــه ظـلــم فـانـه فـي هــذه الحــالــة لا يبـاشــر الـقـتــل وربـمــا لا يبـاشــر الـقـطـع ولا الـضـرب ولـكـنـه قــد ارتـكــب تـلـك الـجـريـمـة بالـتســبب وإن لــم تـكــن مبـاشــرة .
رابعاً :
القــتل بتوكيل غيره وهو ما يسمى في لغة فقهاء القانون الجنائي القتل بالتحـريض ومـثـل القتل بالتحريض ، التحريض على أي جريمة أخرى غير جريمة القتل .
والمحرض بلا شك وان لم تكن الجريمة بفعله وتوسطت ارادة أخرى مع إرادته يعد مرتكباً بهذا التحريض ومشتركاً فيه ولذلك عليه جزء من تبعاتها إن لم تكن تبعة الـفـعـل فتـبعــة التحـريـض ، فـهـذه أقـســام تـقريـبـيـة لا تتـحــد فـيها كل أنظار الفـقـهــاء فـان الأنـظــار تخـتـلف فـي هــذه الأقـســام  اختلافاً بيناً ، وأشد الفقهاء تطبيقــاً فـي معـنى المـباشـرة وتـوسـعـة فـي مـعنى التسبب  هم الحنفية بل انهم ينفـون تبعـة الجـريمـة مطلقـاً فـي بعـض الأحــوال ، واكثـر  الفقـهـاء توسعة في معنى المباشرة وتطبيقاً في معنى  التسبب هم المالكية والحنابلة ، وقد توسط الشافعية بين الفريقين  (1) .
فتيبن لنا من هذا العرض والتحقيق لهذا الركن أن الشريعة الإسلامية قد ساعدت على حفظ النظام وكبح تيار الإجرام مهما صغر في عين فاعله تحقيقاً لمصلحة الجماعة وحفاظاً على أمنهم وراحتهم وليس أدل على ذلك من 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ينظر الجريمة والعقوبة ( قسم الجريمة ) محمد أبو زهرة ص 399 - 400 



ــ 72 ــ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 
أن القوانين أخذت تحذوا حذو الشريعة بنظرية الاتفاقات الجنائية مما يدل على صلاحية الشريعة سواء في العصور الأولى أم عصور الصواريخ والفضاء .
حقق الله تعالى الأماني وأعاد للشريعة الإسلامية هيبتها في نفوس الحكام المسلمين ليحكموها حتى ينعموا بالراحة النفسية مع شعوبهم وعلاقاتهم الخارجية . انه سمع مجيب .

الركــــن الثـالث 
الركـــن الأدبــــي : 

وهــو مـا يســمى في لـغـة القـانـــون بالمـسـئولـيـة الجـنائيــة وان هـذا الـركـن فيـه نظــر الـى الجـريمـة لا مـن حـيـث نتـائجـهــا المـاديــة ولـكـن  نظـر اليـهـا  مـن حـيث أهـلـية الـمرتكـب لتحـمـل التبـعـات  والتـكـليف الديني  والاجتماعي ، وذلـك لأننــا إن نظــرنـا إلــى الجـريـمـة نظــراً مـاديــاً مــن حيـث أنـها فعل ضار فــي شـيوعـيـة  فـسـاد أو اعـتـداء عـلــى حـقـوق  الغـيـر نـجـد تـلـك الحـقـيقة وآثــارهــا  تثـبت بمـجــرد وقــوع الـفـعـل الـمـادي مـن نـاحـية مقدار ما تحمله  الجــانـي مــن الـنـتائــج ومـقـدار ادراكــه وقـصــده لـهـذه النـتـائـج فـإنه لابد من النـظـر إلـى مـقـدار تحـمـلـه لـهـذه التـبـعـة فـربمـا لا يـكـون قـصـد مـطـلـقـاً الـى هــذه النتـائــج كالـمـكـره اكــراهـاً مـلـجـئاً فـإنــه يـكـون كـالريشة في يد من أكرهه والقـصـد قـصـده  ، إذ هو الذي يرتكب النتائج وهو الذي يتحمل تبعاتها وقد يكون للفاعل قصد ولكنه قصد غير معتبر لعدم الفعل الذي يميز به الضار من النافع بحيث لا يكون قصده مبنياً على إدراك النتائج والغايات وترتيب النتائج على المقدمات وقد يكون عند الفاعل  عقل كامل ولكـنه عـنـد الـفـعـل لـم يكـن في حال صحو لأنه سكران وإما لأنـه كـان نائـمـاً أو مغمى عـلـيـه وفــي هـذه الأحــوال لا يـوجــد الـقـصـد مطـلـقـاً سواء أكـان قصداً  يتـحمل فـيـه الـنـتائـج أم قصداً ليس وراءه فـعـل يعـرف بــه النتـيجة ويقدرها حق قدرها ، وكيـفـما  كـان فـالـفـعـل والإرادة الحـرة هـمـا مـنـاط تحمل التبعة تحولاً كاملاً من حـيـث النتائج والغـايــات ولـذلـك أجـمـع الفـقـهاء على أن العـاقـــل الـكـامــل الـعـقـل الـمـريـد الـمـخـتـار الـذي يـعـلـم الـنـتـائــج ويـرتـضـيها عـلـيـه تـبـعـة كـامـلــة
 ــ 73 ــ 
بتـحـمـل العـقـوبـة ســواء أكـانـت عـقـوبة مـالـيـة أم كـانــت عـقـوبــة بـدنـيـة بالقـصـاص أم إقــامــة الحــد لأن القـصـد كامل والرضى بالنتائج ثابت .
وأن  الشريعة الإسلامية لا يثبت التكليف فيها إلا على من أوتى عقلاً كاملاً بأن كان بالغاً عاقلاً ورفع فيه الإثم عند الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه وقال صلى الله عليه وسلم : ( رفع القلم  عن ثلاثة عن الصغير حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق ) (1) . وقد قام التكليف في الإسلام على العقل الكامل لا على مجرد التمييز وبما أن الجريمة هي معصية منهي عنها فانه لا يخاطب بهذا النهي إلا مــن أوتــى عــقــلاً كــامـلاً ولا يـكـون فـي مــوضــع الـموآخــذة الكاملة إلا من فـعــل المنـهـي عـنـه وهــو فــي صـحـو كـامــل وان الإسلام لذلك لم يجعل لهؤلاء خـطــابـاً بالامــر والنـهــي وبـذلك يســقـط التـكـلـيف فــلا يصــح أن يوصف الفعل منـهـم بأنـه مـعـصيـة أو جــريـمـة لأن أســاس العــصــيان الخطاب والتكليف ولا خـطــاب أو تكـلـيف عــلـى هـــؤلاء ، وأساس  الجريمة أن يكون الفاعل له قصد كــامـل يعرف بـه المـقــدمــات والنتـائـج ويقـصــد الــى النتـائــج مــن وراء المـقـدمـات واخـتـلـفـوا في المـلـجـأ الــى الفـعـل بالإكـراه بحيث لا يسعه تركه في جواز تكليفه ذلك الفعل ايجاداً وعدماً والحق أنه خرج بالاكراه إلي حد الاضطرار وصارت نسبة ما يصدر عنه من الفعل إليه كنسبة حركة المرتعش إليه  كان تكليفه ايجـــاداً وعــدماً غـيــر جــائـز إلا عـلـى الـقـول بتكـلـيف ما لايـطاق وإن كان ذلك جــائز عـقـلاً ولـكـنه ممـتنع سـمـاعــاً لقـوله صلى الله عـلـيـه وسـلم : ( إن الله  تجاوز لأمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ) (2) .  والمراد منه رفـع الـمؤاخذة ، وأما أن ينتهي إلي حد الاضطرار فهو مختار وتكليفه غير جائز عقلاً وشرعاً .
وهـنـا نجــد الشــريـعــة تتـجــه فــي تحـمـيـل التـبـعـة ابتـداء الـى النـاحـيـة الخـلـقــية التـي تتـصــل بضــمـيـر مــن يـرتـكـبهــا  أو فـيـه ما يضر المجتمع أو يلحق 
بأحد آحاده الآذى ، وأساس هذه التبعة هو الحرية والاختيار والادراك الصحيح للنتائج
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) رواه البخاري في الطلاق ، وأبو داود في الحدود ، وأحمد في مسنده جـ1 ص 116 .
(2) ابن ماجه في الطلاق / حديث / 2043 .
ــ 74 ــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والقصد إليها قصداً ذلك لأن الأخلاق لا تحكم على فعل بأنه شر إلا إذا توافر عناصر ثلاثة هــي : 
1  ــ   الادراك الصحيح .
2  ــ   حرية الإختيار حرية كاملة .
3  ــ   القصد إلي النتائج التي تضر وتؤذي وان لم تكن في اعتباره هو .
كـذلك فــان تخلـف عنـصـر مـن هـذه العـناصــر لا يـعـد الشـخـص ارتـكب إثـمـاً ولا يـوصـف فـعـلـه بأنــه شــر وإن كــان يوصــف بأنـه ضار فالفرق بين الضــرر والشــر ، أن الضــرر ما يتـرتـب عـلـيه أذى وفــوات يـقـع ســواء أقصد اليـه الفاعــل  ام لـم يقـصـد اليـه ، والشر ما قصد فيه إلي الإثم والخطيئة سواء تـرتب عـليـه مـا قـصـد أم لـم  يتـرتـب عـلـيه قـصـده بل انه قد يعد شراً ولو لم يترتب عليه نفع .
إن مثل هؤلاء بلا شك لا نجد الناحية الاجرامية فيهم ثابتة إذا نظرنا تلك النظرة الخلقية دون سواها ولكن هل ينسى حق المجتمع في حمايته من الأضرار الناجمة عن الأفعال  المؤذية في ذاتها من غير نظر إلي قصد الفاعل وارادته وادراكه فهل يترك اولئك يعيثون في الأرض فساداً من غير أن يحملوا أو ذويهم جريرة لعمل من الاعمال .
إن المجنون إذا قتل فقد انزل بلا ريب ضرراً بالجماعة عامة وبذوي المقتول خاصة ،  ومن حق الجماعة أن تحمي من مثل هذا الضرر وكذلك السكران وكذلك المخـطـىء والنـائـم والغافل فان افعال هؤلاء بلا شك تنزل ضرراً شديداً بالمجتمع أحياناً من قتل أو قـذف فهـل يتـركــون إذا قتلوا أو سرقوا أو قطعوا من غير أي عقاب ينالهم .
تلك مسأله كانت موضع نظر من قديم فقد فكر فيها القانونيون الاقدمون والفلاسفة وترددوا في ترجيح أي الجانبين الجانب الشخصي أم جانب  المجتمع ، وقد قررت بعض الشرائع القديمة مسئولية المجنون والصغير وتنوعت تبعاتهما على درجة مختلفة .
فـمـنهـم مــن قــرر أن يسـأل الـصـغـير والمـجنون عما ارتكبا من أعمال ضارة 
ومنهم من جعل أسرة المجنون والصبي هي المسئولة عما ارتكبا .




ــ 75 ــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومنهم من أشرك المجنون والصغير واسرتهما في غرم مالي نتيجة لما ارتكبه بعض آحادها فاستمر هذا التقلب في تحمل الصغير والمجنون المسئولية حتى جاءت الثورة الفرنسية فحدت مبدأين هما :
أولا :
أن اساس التجريم للأفعال هو أن يكون عند الشخص إرادة حرة مختارة وأن يكون له قصد إلى النتائج التي تكون لفعله حتى يمكن أن تسند هذه الجرائم إليه وأن يعتبر هو السبب لها قد قصد إليها وأرادها .
ثانياً :
أنه لا يؤخذ شخص بجريمة شخص ولا جماعة بجريمة واحد ولا اسرة بجناية فرد من أفرادها  فلا تتحمل الأسرة تبعات من يجرم من آحادها .
وإن المجانين والصغار لا عقاب عليهم فيما يرتكبون دائماً بل ثمة مسئوليات مدنية على من تركهم من أولياء نفوسهم وتكون تلك المغارم المالية  لتقصيرهم في المحافظة عليهم ومنع أذاهم عن الناس فالأولياء لا يعاقبون علىجرائم المجانين وإنما يضمنون ما ترتب من تقصيرهم .
أما الشريعة فكانت وسطاً بين إهمال العقاب بالنسبة للمجانين وأشباههم ممن ذكرنا وبين الذين فرضوا عليهم العقاب كالعقلاء ولو في بعض الجرائم وذلك لأنها لم تعف افعالهم من أي عقاب ولم تعاقبهم كالعقلاء ولم تجعل العقاب على الولي على النفس أو من يكون الصغير أو المجنون في حمايته ويحافظ عليهم وقد جعلت الشريعة جرائم هؤلاء قسمين :
أحــدهما : ــ
ما يكون فيه اعتداء على المال وذلك بكون الضمان فيه من ماله هو إذ الغرم بالغنم وما يكون فيه اعتداء على النفس أو الأعضاء أو يكون بالجروح مما يستوجب القصاص إن أمكن القصاص فإنه يكون عليه الدية ولا يدفعها هو بل تدفعها العاقلة وهم العصبات من ذوي قرابته .  وان هــذا فيـه مـعـنى العـقـاب الجـمـاعـي فـي الأسرة ولكن في الحقيقة هو نـوع مـن التعـاون وإن كان لا يخـلـو مـن أن فيه حملاً للأسرة على الاحتياط من أفعال 



ــ 76 ــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الذين لم  يرزقوا حظاً من العقل يجعلهم يحملون التبعات بأنفسهم ولقد قرر الفقهاء أن الدية التي تجب من الخطأ من البالغ العاقل أو نتيجة أفعال قاصري الأهلية وفاقديها يكون على مرتكب الفعل ثم ينتقل الوجوب إلي الأسرة من قبيل التعاون بين آحادها ويذكر الجصاص رضى الله عنه في كتابه ( أحكام القرآن ) الوجوه التي شرعت لأجلها وجوب الدية على العاقلة فيقول ( ولوجوب الدية على العاقلة وجوه سائغة في العقل هي : 
أولاً : ــ
أنه جائز أن يتعبد الله تعالى بإيجاب المال عليهم لهذا الرجل من غير قتل كان منه كما أوجب الصدقات في مال الأغنياء .
ثانياً :  ــ
أن موضوع الدية على العاقلة إنما هو على النصرة والمعونة ألا ترى أنهم يتناصرون على القتال والحماية والذود عن الحريم فلما كانوا متناصرين في القتال والحماية أمروا بالتناصر والتعاون  على تحمل الدية ليتساووا في حملها كما تساووا في حماية بعضهم بعضاً عند القتال .
ثالثا :  ــ
أن في إيجاب الدية على العاقلة زوال الضغينة والعداوة من بعضهم لبعض إذا كانت قبل ذلك ، وهو داع إلي الألفة وصلاح ذات البين ، ألا ترى أن رجلين لو كان بينهما عداوة فتحمل أحدهما عن صاحبه ما قد لحقه لأدى ذلك إلي زوال العداوة والى الألفة وصلاح ذات البين .
رابعاً :  ــ
أنـه إذا تحـمـل عـنه جنـاية حـمـل عنـه القـاتـل إذا جـنـى أيضاً فلم يـذهـب حـمـله للجنـايـة عنـه ضيـاعـاً بـل كــان لـه أثـر مـحـمـود يستحق فعله عليه إذا وقعت منه جناية .
فهذه وجوه كلها مستحسنة في العقول غير مدفوعة وإنما يؤتى الملحد من ضـيق عـقـلـه وقـلة معـرفـته وإعراضه عن النظر والفكر والحمد لله على حسن هدايته ) انتهى كلام الجصاص .
هؤلاء هم الذين تكلم الفقهاء في تحملهم تبعات ما يقع منهم من أ ذى وقد اعفوهم أو بعضهم من الحدود والقصاص و التعزيرات و إن لم يعفوهم من الديات على تفصيل و اختلاف في الإعفاء و في مداه با لنسبة لكل حال من هذه الحوال. 




ــ 77 ــ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 
أمــا  الآن فالـكـلام عـلى تحـمـل البـالـغ الـعـاقــل الـواعــي لتـبعة أفعاله وتـحـمـلـه لنـتائجـهـا ولـقـد اعتـبـرت الشـريعـة العـقـلاء البـالغـيـن المـريـديـن مسئــولية كـامـلـة عـن أعـمـالهــم وهــي بهـذا قــد اتجــهـت إلـى اعـتبـارهــم مختـاريـن فـي ارتـكــاب الجـريـمة غـير مجــبرين ، وقــد وقع بين علماء المسلمين فـيمـا يتعلق بالجـبر والاختـيار خـلاف أسـاسه إرادة الإنسان المحدودة مع إرادة الله سبحـانه وتعـالى وقــدرته عـلى كــل شـيء وكون كل شيء بإرادة الله ولا يخرج شيء عن إرادة الله .
فـقـد قــرر بعـض عـلـمـاء الكلام أنه مادامت إرادة الله شاملة لكل شيء وعـلمـه محـيـط بكـل شـيء فـإن الإنـسـان لا إرادة لــه فيما يفعل بل هو في هذا الوجــود كالريشة في مهب الرياح وكل شيء بقضاء الله  وقدره وهو المنشىء المكون ، فالانسان وقدرته وإرادته وأعماله خلق الله تعالى ولا ارادة له في شيء وهؤلاء هم الجبرية .
وقــرر آخــرون إن الله خــالـق كــل شــيء وخــلـق فــي الانـسـان قــدرته عـلـى العمل والانشاء فهو ينشىء في الكون ولكن بقوة أودعها سبحانه إياه فالمعـاصــي إنـمـا تـقـع بـارادة العـبـد الـتـي مـكـنه الله منـهـا بالـقـوة التي أودعها الله تعـالى  اياه وذلـك تحـقـيق لمـعـنى الـعـدالـة الالـهـية لأنـه تعـالــى لا يـعـاقب العـبد عـلـى أمــر ليـس مــن فـعـلـه فــلا بــد إن تــسند الـمـعـاصــي الــيـه حـتى يتحـمـل العبـد تـبعـتـهـا  ويعاقــب عـليهــا فـي الـدنيــا بـمـا وضـع الله  عـليـهـا مـن حــدود وقصــاص  وفـي الآخــرة بمــا أعده للآثمين من عقاب اليم وهؤلاء هم المعتزلة .
وبـين هـاتين وجــدت أمـة مقـتـصـدة لـم تـفـرض فـي الانـسـان الارادة
 المطـلـقـة المخـتـارة التـي يكـون بها الإنسان فعالاً لما يريد ومسئولاً عن كل فعل 
يفـعلـه كـمـا لا تـنـفى عـنه كـل ارادة ويـزول عـنه كل اختيار بل قرروا أن 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Post Top Ad